المراهنات على مباريات كرة القدم ظاهرة عالمية تبلغ أوجها أثناء كأس العالم ويقال إن ما يتم تداوله خلالها من مبالغ يفوق ما تنفقه الدول على الإعداد لكأس العالم و بناء منشآته. صناعة عالمية لها أربابها ومافياتها وتعقيداتها. بعض الدول تجيزها وبعضها يمنعها قانوناً لكن ذلك لا يعيق مطلقاً انتشارها لا سيما اليوم عبر المراهنات أونلاين وبكبسة بسيطة. ومن المتوقع أن تصل الرهانات في الولايات المتحدة وحدها إلى 1.8 مليار دولار. لكن المراهنات في العالم بكفة وفي لبنان بكفة أخرى.
لبنان الذي نعنيه هو لبنان المناطق الشعبية والناس البسطاء الذين يلاحقون حلم الحصول على عشرات آلاف من الليرات لا يكدّون في جنيها كما اعتادوا. في هذا اللبنان المراهنات على «قد الناس» والربح كذلك، لكن قد تجمح الأحلام أحياناً وتدفع بأصحابها الى التهور ورفع قيمة المراهنات أملاً بربح أكبر، وهنا قد تحدث الكارثة وتتبخر المدخرات ومعها الأحلام لصالح جيوب السماسرة ومن راءهم.
رزق الله على ايام السبق
مواقع المراهنات بالدولار معروفة جداً ولها أربابها مثل Bets360 أو Kuragoal أو Betwaysports وغيرها وهي شرعية في البلدان التي تسمح بالمقامرة حتى أن بعض المشاهير اللبنانيين يروجون لهم ويشكلون الوجه الإعلاني لها. وتلاقي هذه المواقع إقبالاً كبيراً من قبل اللبنانيين الذين يراهنون بالدولار إما بالكاش او عبر حسابات مصرفية لهم في الخارج. الى جانب هذه المواقع مواقع أخرى تتم المراهنة فيها باللبناني مثل 500lira.com أو Ahlabet.com و millionbet.com وغيرها.
أمام فرن المناقيش، عند الحلاق، في الكاراجات وفي المقاهي الهواتف شغالة والكلّ منهمك، لا بتسيير أمور الزبائن المعتادين بل بتسجيل المراهنات وإعطاء التعليمات. يتفاجأ من هو خارج الأجواء بهذه الحركة غير الاعتيادية في أماكن عادة ما تكون أكثر هدوءاً. التعليمات تنتقل من زبون إلى آخر: «أوعا تلعب ع البرازيل، ليرتك ما بتعطيك شي… لعاب كرواتيا الليرة بتعطي 16» فيتذكر معها المخضرمون «تعليمة» السبق في أيام العز
في برج حمود مقهى يتيح صاحبه للشباب الذين يتابعون المباراة المراهنة باللبناني نقداً. وفيما هم «يؤرغلون» أو يشربون البيرة أو النسكافيه، تتم المراهنة ويجري الدفع نقداً في آخر المباراة. صندوقه دائماً ممتلئ بالكاش وقد يتهاون كما سواه من السماسرة مع الزبائن فيعبئون لهم الـ «أكاونت» على حسابهم ولا يقبضون منهم نقداً وعدّاً وفوراً. فيتحمس الشبان ويكررون تعبئة حساباتهم مرات عدة بالدين الى أن يكشر السمسار عن أنيابه ويطالبهم بتسديد ما عليهم، حينها قد يضطرون الى رهن او بيع بعض أغراضهم حتى لا يتعرضوا لمضايقات جدية يتم تهديدهم بها من قبل سماسرة زعران وفق ما رواه لنا أحد الشبان بعد تعرض شقيقه للتهديد.
في مكاتب السمسرة الأخرى يتمّ الدفع من خلال تحويل المبلغ عبر مراكز Wish money ويتم تحصيل الربح بحوالة الى المركز نفسه. هكذا لا يرى اللاعبون السمسار ولا يراهم. يكفي أن يفتح لهم حساباً عبر الهاتف حتى يصبحوا قادرين على اللعب والمراهنة عن بعد. هنا الدين ممنوع والعلاقة المباشرة غير موجودة واستيفاء قيمة المراهنة يتم مسبقاً عبر تحويل المبلغ. ويتساءل البعض إذا كانت هذه المراهنات هي أحد أسباب زيادة أعداد مراكز تحويل الأموال بهذا الشكل الكبير. ففي أحد شوارع البلدات الصغيرة مثلاً لاحظنا ما يزيد عن ستة مكاتب لتحويل الأموال
مراهنة باللبناني أو على اللبناني؟
«أغلب شباب المنطقة يقول جورجيو يدخلون الى المواقع التي تتم فيها المراهنات بالليرة اللبنانية لأن المراهنة بالدولار خربان بيوت. الدفع يتم عبر مكاتب تحويل الأموال لكن السمسار قد يأتي بنفسه الى مداخل البنايات ليقبض أو يدفع، حتى أن أحدهم قد كلف والدته بهذه المهمة. هي لا تتحرك من بيتها، منه تدير «مصالح» وحيدها ويقصدها شباب الحي للمراهنة».
وبعض المكاتب يقوم بالتحويل من الليرة الى الدولار على حسابه وطبعاً يحتسب دولار المراهنين أعلى من سعر السوق وقد يكون الفرق كبيراً أحياناً فيستفيد من سعر الصرف الى جانب كل الفوائد الأخرى.
أحد كبار الرؤوس في المصلحة والذي يدير أكثر من سمسار بدأ عبر محل نتوورك صغير كان يقصده أطفال الحي ومراهقوه من أجل لألعاب الالكترونية، فيما كان يدير في الطابق الثاني مكتباً لألعاب البوكر غير الشرعية تحول مع الوقت الى مكتب للمراهنات أيضاً. وعبره تعلم الشبان الصغار هذا النوع من ألعاب القمار والمراهنة غير الشرعية وتعلقوا بها وأدمن بعضهم عليها. «لقد قضى على مستقبل هؤلاء الأولاد» يقول جريس وهو والد لشابين خسرا في مراهنات الفوتبول مبلغاً كبيراً، «علّقهم بالقمار من دون أن نشعر وحين علمنا بالأمر كان الوضع قد بات خارج السيطرة. لقد اضطررت شخصياً للتدخل وتهديده لعدم السماح لأولادي بالقيام بأية مراهنات عبره. لكنني أعتقد أن الأرباح التي يجنيها أكبر بكثير من صحوة الضمير وواجبنا نحن كأهل أن نراقب المراهقين والشباب حتى لا ينساقوا وراء هذه الألعاب المؤذية. اليوم الرأس الكبير بات من أصحاب الملايين ويشغل سماسرة كثراً تحت يده فيما أولادنا لا يجدون قرشاً في جيوبهم. هو محمي من قبل كبار وربما جهات حزبية أو أمنية» يقول الوالد وهو يخفض صوته حذراً.
وقد عرفنا أن الرأس الكبير غالباً ما يعمد الى شراء أكاونت كبير من الخارج ويضع فيه مبلغاً كبيراً من المال ثم يقوم بتقسيمه الى حسابات صغيرة ويشغل السماسرة ليأتوا له بالزبائن ليفتحوا الحسابات من عنده. وهو كما السمسار يأخذ نسبة من الأرباح ونسبة أكبر من الخسائر وكلما زاد عدد الزبائن الذين فتحوا حسابات عنده كلما زاد ربحه وهو في الربح والخسارة رابح…
كلهم يراهنون
البعض يرى أن «القصة ما بدها هلقد» والمراهنات مجرد لعبة حظ ويمكن أن تعود على أصحابها بربح سريع هم في أمس الحاجة إليه في هذه الظروف الصعبة. الكل اليوم يراهن على مستويات مختلفة وبعض من راهنوا «صابوا» مبالغ طائلة. أحدهم وصلت قيمة ما ربحه الى 611 مليون ليرة، فيما آخرون ضحك عليهم سمسار المنطقة (وهي منطقة متنية ساحلية) ووعدهم بإعطائهم ما ربحوه في المراهنات لكنه لعب بهذا الأموال وخسرها كلها وطارت معها أموال المراهنين ويقال أن المبلغ فاق 500 مليون ليرة… ورغم تأكيد الشاب الذي نقل إلينا هذه المعلومات على صحتها إلا أنها قد تكون تمريرات من قبل السماسرة ليدفعوا الشباب للمراهنة أكثر للحصول على أرباح أكبر.
ويروي آخر، أن لبنانياً راهن على فوز السعودية على الأرجنتين في الدور الأول، بعدما كانت متأخرة واحد – صفر، بعشرة آلاف دولار وبلغ ربحه 280 ألف دولار.
قصص المراهنات في الأحياء مثل قصص الحيات لا تنتهي والخبريات كثيرة، معظمها صحيح وإن كان بعضها مبالغاً به. لكن الأكيد أن هناك شباباً راهنوا أقله مرة للتسلية وكثراً امتهنوا هذه الوسيلة للربح السريع في زمن المونديال. يكفي أن يكون للمراهن معلومات كروية صلبة وأن يتابع عن قرب عالم كرة القدم حتى يتوقع النتائج بشكل شبه أكيد. أما من يراهن عشوائياً أو فقط على الفرق التي يحبها أو يقوم بالرهان على عدة فرق ومباريات في وقت واحد فالخسارة حتماً في انتظاره.
«هو مونديال الخسارة يقول حسام والناس لم يعرفوا كيف طارت أموالهم. انغرّوا ببعض الربح في البداية فصاروا يضاعفون رهاناتهم ومن ثم بدأت المفاجآت ومعها الخسارات. وفي المقابل ثمة اشخاص جنوا ثروات. السماسرة على خلاف ما يعتقد البعض لا يجنون أموالاً من تشريج الحسابات بل هم يقتطعون نسبة مئوية من الربح وينالون نسبة مئوية أعلى من شركة المراهنات في حال الخسارة. المراهنون لا يمكنهم أن يخسروا أكثر من قيمة المبلغ الذي راهنوا به لكن كلما ازدادت قيمة مراهناتهم وعددها أو أدمنوا على المراهنة ارتفعت المخاطر وازدادت الخسارة».
مصيدة الربح
والمراهنات كثيرة جداً ومتشعبة ولا تتوقف عند توقّع الفريق الرابح او نتيجة المباراة بل يمكن أن تشمل أي تفصيل يمكن أن يؤثر على سير المباراة مثل أعداد البطاقات الصفراء او الحمراء وعدد ضربات الترجيح وحتى في أية دقيقة يحصل الهدف. كل التفاصيل الدقيقية يمكن أن تصبح هدفاً للمراهنة وكلما كانت النتيجة غير مضمونة او التفصيل دقيقاً كلما عاد بنسبة أرباح أكبر على صاحبه وقد يدفع الدولار الواحد 9000 دولار.
«لا أحد منا يراهن على مباراة واحدة» يقول جورجيو «بل على أربع أو خمس مباريات حتى يزيد من إمكانية الربح، 100000 ليرة يمكن أن تعطي 10 ملايين إذا راهنا على 6 أو 7 فرق. لكن هنا تصبح المخاطر أكبر إذ يكفي ان يخسر فريق من الفرق التي راهنا عليها حتى نخسر كل شيء وإن أصبنا نتيجة باقي الفرق أما التعادل في الوقت الأساسي فهو بمثابة خسارة إذ لا يعترف بتمديد الوقت ولا بضربات الترجيح». ويروي الشاب هذه التفاصيل بحسرة من ذاق طعم الخسارة وبات ناقماً على كل السماسرة.
يمكن أن يتم تشريج الحساب بدءاً من خمسين دولاراً، وبعض المواقع «الشرعية» تقدم تشجيعاً للمراهنين وتمنحهم Bonus 350% فوق المبلغ الذي بدأوا به ليصبح رصيدهم حرزاناً ويتمكنوا من رفع الرهانات. رصيد أم مصيدة؟ الجواب يتوقف على ذكاء المراهن وخبرته وقدرته على التحكم بنفسه. وفي لبنان قد تتحول نعمة الدولارات السريعة الى نكبة تضاف الى نكبات الشعب الذي يفتش دوماً عن طاقة أمل.
نداء الوطن