قبل أيام، أُدرجت الجامعة اللبنانية ضمن أفضل 151-175 جامعة من أصل 1600 أخرى حول العالم في تصنيف السمعة العالمية «World Reputation Rankings» للعام 2022 الصادر عن مؤسسة التايمز للتعليم العالي. ليس هذا التصنيف الأول وأغلب الظن لن يكون الأخير لأن جودة البحث والتدريس – بعيداً عن التشويش الخارجي – كانت في صميم الجامعة وستبقى. لكن عطفاً على ما نعرفه من أزمات تطالها وما يتردّد عن تحدّيات يومية للأساتذة والطلاب، نشعر أننا أمام جامعتين لبنانيّتين مختلفتين. لِنَقُل: تجسيد مكثّف لحال لبنان… بحلوه ومرّه.
ما نسمعه في الآونة الأخيرة عن تفاقم شؤون وشجون الجامعة غير مألوف لا بل مثير للدهشة. أساتذة يتابعون درس طلبات الدكتوراه على ضوء هواتفهم النقّالة. وما حدا أحسن من حدا. طلاب يقرأون المواد بالطريقة نفسها أيضاً. أستاذ متعاقد يتقدّم باستقالته ليعمل كناطور مبنى بعد أن كان يتقاضى مبلغ 60 ألف ليرة عن ساعة التعليم الواحدة. ليس معيباً العمل كناطور بالطبع لكنّ الشيء بالشيء يُذكَر. وثمة ما هو أغرب ممّا لم يعتد عليه طلاب معهد الدكتوراه في الجامعة. فمطالبتهم بتأمين ما يلزم من مادة المازوت والماء والمحارم والبن وأكواب البلاستيك أثناء تقديم أطروحاتهم حالة تتكرّر. وهي واقعة تردّدت حرفياً على لسان ثلاثة منهم ممّن تواصلنا معهم. غير مقبول ولا يليق بالجامعة كانت إجابتهم الموحّدة. فما هو تفسير المسؤولين لما يحصل؟
العلم «نور» في حديث لـ»نداء الوطن» مع عميد المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، الدكتور محمد محسن، نستمع إلى مقدّمة يصف فيها محسن ظروف الجامعة بالصعبة للغاية. الصعوبات تبدأ بالعمل الإداري ولا تنتهي بانتظام العمل الأكاديمي، كما يشير مضيفاً: «الجامعة اللبنانية هي إحدى مؤسسات هذه الدولة، وبالتالي ما يصيب الأخيرة يصيبنا بطريقة أو بأخرى». موازنة الجامعة لم تعد تكفي لتلبية حاجتها من المواد التشغيلية والانهيار المالي انعكس بشكل مباشر على تأمين مصاريف الصيانة واللوازم المكتبية ومواد التنظيف وغيرها، والكلام لمحسن.
إلى مزيد من تخفيض الموازنة في 2023 أم لا؟ لا ندري. بيد أن الروحية المتفانية التي يمتاز بها أساتذة الجامعة الذين يحاولون قدر الإمكان منع الانهيار الكلي والحفاظ على الموجود بالإمكانات المتوفّرة كانت محط إشادة محسن. ونحن نشاطره الرأي. صحيح أنّ الصورة التي نُشرت قبل فترة عن قيام أساتذة اللجان الفاحصة بدرس طلبات الدكتوراه على ضوء الهاتف تدلّ على ذلك. وصحيح أن الطلاب يتكبّدون بدورهم الكثير لإكمال دراستهم. فماذا، بخلاف ذلك، تكون قراءة مادة القانون الدستوري على ضوء الهواتف الخافت بسبب انقطاع التيار الكهربائي؟ لكن الصحيح ليس ممتعاً دائماً. هناك أشياء صحيحة تولّد الغضب وهذا ما كان لبّ ردود الأفعال على تواتر أخبار العتمة في غرف لجان الدكتوراه.
خيارات تقاطع المصالح
نعود إلى مسألة توفير مادة المازوت. فقد رأى محسن أن هناك عدة وسائل لتلبية احتياجات الكليات والمعاهد من هذه المادة. الوسيلة الأولى تتمثّل بالسلف حيث يحق لكلّ عميد أو أمين سرّ كلية بطلب سلفة شهرية قيمتها 35 مليون ليرة من رئاسة الجامعة. لكنّ إضراب الموظفين والوضع العام يعرقلان تلبية تلك الطلبات. أما الوسيلة الأخرى، فترتكز على تبرّعات فاعلي الخير. وهذه أخذت، بحسب محسن، أبعاداً غير دقيقة على وسائل التواصل الاجتماعي إذ أكّد أن «الموضوع ليس شرطاً للسماح للطالب بمناقشة أطروحته، إنما نضعه في إطار الخدمة الاجتماعية للطالب».
كيف ذلك؟ «حين يأتي طالب الدكتوراه لتقديم أطروحته مستعيناً ببرنامج الـPOWER POINT في وقت لا تكون مادة المازوت متوافرة لتأمين التيار الكهربائي في الكلية، نضعه أمام خيارين: إمّا أن يطبع الأطروحة على أوراق ويوزّعها على اللجنة أو أن يقوم بتأمين مادة المازوت بنفسه. وهنا يكون الخيار له بعيداً عن أي إكراه أو اشتراط»، كما يشرح محسن. ويضيف: «نقوم بتشغيل مولّدات الجامعة أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، فإذا أصرّ الطالب على مناقشة أطروحته خارج هذه الأيام، نطلب منه تأمين المازوت لتشغيل المولّد». تبرّع الطلاب (مشكورين) بتوفير المازوت، ليس فقط من باب الخدمة الاجتماعية، بحسب محسن، إنما يخدم تقاطع المصالح بين الجامعة والطالب. الغاية تبرّر الوسيلة، إن شئتم.
أين مستحقات الـPCR؟
وهناك ما يزيد الطين بلّة: مبلغ الـ52 مليون دولار من مستحقات الجامعة لقاء فحوص الـPCR – هل تذكرونه؟ – ما زال عالقاً. فعرض تسديد جزء من المبلغ من قِبَل شركات الخدمات الأرضية المشغّلة في المطار رفضته الجامعة مع الإصرار على تقاضي المبلغ كاملاً. رئيس مجلس إدارة طيران الشرق الأوسط، محمد الحوت، يعتبر أن الجامعة لا تطالب بمستحقات قانونية بل تفرض ضرائب بمفعول رجعي. أما النائب العام المالي، القاضي علي إبراهيم، ففصّل – عندما توجّهت إليه «نداء الوطن» بالسؤال – الموضوع إلى شقّين: شقّ يتعلّق بالشركات الأجنبية التي لم تسدّد ما بذمّتها بعد، و»نحن نسعى خلفها آملين في أن نكمل في الأيام المقبلة تحقيقنا مع باقي الشركات التي يتوجب عليها تسديد مستحقات الجامعة»، على حدّ قوله؛ أما الشقّ الثاني، فيرتبط بشركة طيران الشرق الأوسط التي ما زالت تنتظر الحكم القضائي للتنفيذ. وتابع إبراهيم ليؤكّد المؤكّد: «وضع الجامعة سيّئ جداً وهي بأمسّ الحاجة إلى هذه المستحقات. وأتمنى ألا يكون هناك أي تقصير من قِبَلي بحقّها لأنني فرد منها».
إستمراريّة الأمر الواقع
ندع قصة «إبريق الـPCR» جانباً ونتوجّه إلى مدير كلية العلوم – الفرع الثاني في الفنار، الدكتور إيلي الحاج موسى، الذي يصف هو الآخر وضع الجامعة لـ»نداء الوطن» بغير الجيّد، على غرار سائر مؤسسات القطاع العام. «لكن ما يميّز الجامعة عن باقي المؤسسات هو وجود من يسعى جاهداً لعدم سقوط هذه المؤسسة ويقوم بكل ما بوسعه، إن مع الجهات المختصة في الدولة أو مع المؤسسات الدولية أو حتى الأهلية منها، لتحقيق صمودها في وجه الظروف»، كما يقول.
الأوضاع في بعض الكليات أو الفروع تكون أحياناً أسوأ ممّا هي عليه في كليات أو فروع أخرى، يشير الحاج موسى، لكنّ العمل جارٍ على تحسين ما أمكن، ليس طمعاً بالمثالية إنما لتأمين صمود الحدّ الأدنى إلى حين تحسّن ظروف البلد عامة. ويتساءل: «لنعتبر أن بعض الفروع يعاني من مشاكل جدّية، لكن هل من خيار أمامنا؟ هل نقفل الجامعة في وجه ما بين 50 إلى 60 ألف طالب لا إمكانيات لديهم للانتقال إلى جامعات أخرى؟». الاستمرارية هي الخيار الوحيد. وهذا ما تعمل عليه الإدارة من خلال استنباط أفكار جديدة وتأمين ما تيسّر من المساعدات. لعلّ وعسى.
تسهيلات من هنا وهناك
ماذا عن الأساتذة المتعاقدين؟ الحاج موسى لفت إلى أن الإدارة غضّت النظر عن قيام الأستاذ أو الموظّف في الجامعة بعمل آخر خارج حرمها رغم أن قانون التفرّغ يمنعه/ها من مزاولة أي مهنة أخرى. وفي ما يتّصل باللوجستية، أي المازوت والكهرباء والمواد المحبرية وغيرها، فقد قامت الإدارة بما يلزم لزيادة موازنة الجامعة كما أمّنت كميات من المازوت عن طريق الجيش اللبناني، إلى جانب المساعدات التي تحظى بها الجامعة من بعض الجهات الأخرى. فالبنك الدولي، مثلاً، وافق على تركيب ألواح طاقة شمسية في بعض الكليات – وخاصة الكبيرة منها – لكنّ العرقلة مردّها لأسباب إدارية داخل وزارة التربية. التشويش الخارجي إياه.
التميّز رغم كلّ شيء
«الوقت أفضل مستشار»، كما يقال. لكن الانتظار في لبناننا الحبيب قاتل. فهل من «إبرة» ضوء في نهاية نفق «كومة القش»؟، نسأل الحاج موسى الذي يجيب: «آخر تصنيف للجامعة من حيث السمعة العالمية يشكّل اعترافاً صريحاً بجودة ونوعية التعليم فيها. ما يحصل مؤخراً من تقييم للجامعات هو نتيجة الانتشار الواسع لها عالمياً. ومع إمكانية ابتعاد بعضها عن هدفه الأساسي في التعليم والتنشئة والتحوّل إلى الهدف المادي الصرف، تطوّر عمل المؤسسات التي تقيّم نوعيّة التعليم تلك».
فما الإفادة التي تمنحها تقييمات كهذه لطلاب الجامعة؟ «لنتخيّل طالباً تخرّج من كلية الطب في الجامعة اللبنانية وتوجّه إلى بلد آخر للعمل في أحد مستشفياته. فإن لم يكن اسم الجامعة مدرجاً على لائحة الجامعات المتميّزة، كيف سيُسمح له بالعمل هناك؟»، يعلّل الحاج موسى. التقييم أصبح مرتَكَزاً بالغ الأهمية تتبدّل معاييره من سنة لأخرى. فهناك معايير تتعلّق بالبحث العلمي أو السمعة المهنية أو حتى بتنوّع جنسيات الطلاب أو الجسم التعليمي. «احتلت الجامعة اللبنانية مواقع متقدّمة في أكثر من تقييم، وهذا ما نلمسه في زياراتنا إلى مؤسسات التعليم العالي في الخارج، حيث يبدو الحماس واضحاً لناحية المطالبة بطلاب من جامعتنا يتميّزون بالجدية والرصانة والذكاء».
ما المطلوب؟
لو تعرّض صرح آخر لما تواجهه الجامعة اللبنانية من مطبّات لبنانية الطابع والخصائص لانهار تحت وطأتها. والأمثلة شاهدة على ذلك. لكنّ الحفاظ على موقع أكاديمي متقدّم لبنانياً وعربياً وشرق أوسطياً يبقي الأمل موجوداً. إنما هذا لا يكفي لأن مستقبل الجامعة غامض، كما يعبّر الحاج موسى الذي لم يفته التلميح ختاماً إلى بعض الذين يثابرون على مزيد من تعقيد الأمور وتصعيدها، إن من خلال عرقلة صرف الأموال أو وضع العصي بالدواليب، فقط لتزمّتهم من الناحية القانونية أو لأسباب أخرى مجهولة. «إذا تحقّق تضافر الجهود بين أهل الجامعة والمعنيّين بها بهدف الحفاظ عليها سيكون أمام طلابها مستقبل واعد. لكن إذا تخلى عنها أهلها وإن استمررنا في عدم الاتفاق بالمطلق على صورة لبنان المستقبل، فكيف لنا بالأحرى أن نحدّد أي جامعة نريد؟».