6 شباط 2023… تاريخ جديد يُطبع في ذاكرتي، كان يحمل معنى واحداً شخصياً، إلا أن الظروف الطبيعية شاءت له أن يحمل معنى ثانياً جماعياً. هو تاريخ انتقالي من باريس إلى دبي، وأردت أن أستقلّ طائرتي من لبنان… صباحاً وقبل دقائق من خروجي من المنزل، “بلّش يهزّ البيت فينا”، على شفاهي وأهلي “يا عدرا.. يا قدوس”… وأنا متأكدة أن الصلاة كانت موحّدة في هذا التوقيت، وثمة من يقول “الله أكبر” وكلٌ يتلو صلاته بين شفاهه… هزة أرضية شعرنا بها في لبنان كما العديد من الدول، نتيجة زلزال ضرب تركيا وسوريا.
يومها، كبُر الإيمان، وصغُرت كل مشاكل الكون والأزمات… يومها سمعت أمي تقول “هيك بلشنا نحسّ ب 4 آب” (عام 2020، تاريخ انفجار مرفأ بيروت)..
يومها، لأول مرة أقول “عن جد قدّيه متعلقين بالحياة”…
يومها، لأول مرة أعيش هذا النوع من الخوف المرتبط بمجهول… للحظات لم أعرف ما إذا كنت سأتوجه إلى المطار أم أنني سأضطرّ إلى مواجهة مصير آخر…
يومها، قالت لي إحدى صديقاتي: “بليز أجّلي سفرك”، فقلتُ: “ما بقدر”…
يومها، ولأول مرة بعد 16 سنة غربة وسفر، أشعر في المطار بإحساس غريب خاصة وأن الهزّة ترافقت مع عاصفة قوية في لبنان. ولكن منعت عنّي أي خوف، وأخفيته خاصة عن أمي وأبي.
ولكن يومها كما دائماً، تمسّكت بإيماني و”اتّكلت ع الله ومشيت”.
يومها، تجدّد مفهوم أنّ الإيمان أقوى من أي شيء، وأنّ الحياة تسعى دوماً إلى إجراء الاختبارات على طريقتها. وبعيداً عما غرّده الباحث الجيولوجي الهولندي Frank Hoogerbeets قبل أيام من حدوث زلزال تركيا، وما قاله ميشال حايك في توقعات نهاية سنة 2022، فما حدث في 6 شباط 2023 هو درس حياة جديد.
لا… هذا ليس عقاباً من الله؛ لا… ليس غضباً من الطبيعة؛ لا… ليس أي شيء من أي نمط تحليل. إنه حدثٌ جيولوجي من صُلب الطبيعة، وفي الوقت ذاته هزّة ضمير من أجل الإنسانية.
“الله يرحم كل شخص توفي… وان شاء الله بيلتقى كل مفقود… والله ينجينا من كل مجهول صعب”. هي كلمات تليق بهذا الظرف المؤلم، ولكن مع الأسف يصعب على البعض نطقها أو كتابتها. فما نشهده من حملة نكات ساخرة، وبعض البوستات غير الملائمة، يقودنا إلى القول إنّ بعض الأشخاص لا يمتلك من الإنسانية “ولا ذرّة”. من لديه قول حسن، فليقُل وليُراسل ولينشُر، ومن ليس لديه فليصمت “وما رح يعتب عليه فايسبوك وانستغرام وتويتر وتيك توك”.
في هذا اليوم، نكتشف أن الدين ليس وحده من يوحّد أم يفرّق، بل هناك أيضاً الإنسانية. فأمام أصوات الإغاثة والاستغاثة من كل جهة شخصية، فنية، سياسية، دولية، شعبية، إعلامية، جمعيات، مجتمع مدني، رجال إطفاء، رجال دولة، وكل صوت إنسان سواء كان طفلاً أم مراهقاً أم شاباً أم مسنّاً، تسقط كل شوائب الدول والحكّام والأنظمة والسياسات، وتنتصر روح الإنسان.
صحيح أنني كنت طفلة خلال الحرب الأهلية في لبنان، ولم أشهد على فاجعة انفجار مرفأ بيروت، لكنني اختبرت حالة معينة من الخوف والإيمان والأمل والرجاء ألا يحدث ما هو أخطر، وكل منا عاش الحالة بطريقة ما. منا من قال “الحمدلله مرقت ع خير”، ومنا من عاش ألم الموت والفقدان.
من منا لم يسمع صوت تلك الطفلة التي تنادي “طالعني.. وبعملك اللي بدك ياه وبكون خدامة عندك”؛ وذاك الطفل الذي انتشل من تحت الانقاض ويسأل “شو صار” ؛ وذاك المراهق الذي صوّر فيديو وهو من تحت الانقاض ويجهل مصيره؛ وذاك الناجي الذي يصلّي ويدعو الطفل العالق أن يردّد الصلاة وراءه كي يخفف من خوفه… صورٌ تُضاف إلى ألبوم المآسي سواء المفتعلة أو غير المفتعلة، وبعد كل حادث أو كارثة من هذا النوع، نتمنى أن “يوعى الإنسان لحياته”، ونأمل أن “توعى ضمائر الحكّام”. الحمدلله على سلامة الناجي، والله يرحم الموتى.