عندما نقرأ ما تقوله أو أو تكتبه الإعلامية والمحللة السياسية راغدة درغام، رئيسة “مؤسسة بيروت إنستيتيوت”، علينا حكماً أن نقرأ بين السطور لا السطور نفسها فقط، فهذه الإعلامية المخضرمة تفاجىء القارىء أو المستمع في كل مرة ب “استشراف” الأحداث داخلياً وإقليمياً ودولياً، لتأتي الوقائع لاحقاً ترجمة حرفية لِما أعلنت عنه، وهو ما جرى بالتحديد في حديث لها من أشهر قليلة ألمَحت خلالهالى مساع لعقد اتفاق في المنطقة برعاية الصين، وهو ما تمظهر اتفاقاً إيرانياً- سعودياً برعاية صينية منذ أيام معدودة.
وفي حديث خاص ل LebTalks، تحدثت درغام عن المعطيات التي كانت تمتلكها وقتذاك ودفعتها الى التصريح المسبق عن هذا الأمر، فأشارت الى
أن هذا الأمر حدث في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي حيث كانت المناسبة انعقاد القمة العربية- الصينية التي استضافتها الرياض، وكانت هناك أيضاً قمم ثنائية بين الصين والسعودية وأخرى خليجية بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي الست، وكذلك بين الصين والدول العربية، كل هذه القمم استضافتها الرياض بخطوة ذكية جداً لأن القيادة في الرياض فهمت ماذا في ذهن الصين من تمتين لمسيرة ما يسمى ب “الحزام والطريق”، وهي مسيرة استراتجية للصين تقوم على إعادة نوع من ” طريق الحرير” كما كانت في الماضي، ولكن طبعاً بصورة جديدة ومتقدمة تكنولوجياً لأسواق مختلفة وكذلك من خلال علاقات استراتجية جديدة من نوعها بكل معنى الكلمة.
فعندما استضافت الرياض هذه القمم، كنتُ على ثقة بأن الصين تريد أن تلعب دوراً مهماً كجسر بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية وذلك بهدف تهدئة الأجواء، فالصين لا تحب التوتر في العلاقات بين أصدقائها، والقيادة الصينية تعتقد أن في وسعها أن تلعب دوراً مميزاً وناجحاً، وتحديداً في مسألة فائقة الأهمية وهي اليمن، بحيث أنه اذا تمكنت الصين من إقناع إيران بالتعاون في حل أزمة اليمن فسيكون الأمر إنجازاً مهماً ترحب به الدول الخليجية كلها وليس فقط السعودية.
زخم ونفوذ صيني على إيران
تتابع درغام: منذ البداية ظننتُ أن باستطاعة الصين أن ثؤثر على إيران لأن هناك اتفاقية استراتجية واسعة بين الجانبين تُسمّى “الاستراتجية الشاملة” وهي متعددة الصعد، وتعطي الصين نفوذاً مهماً جداً في إيران، والأمر الثاني هو أن تستورد كميات ضخمة من النفط الإيراني الذي يعطي طهران القدرة على الاستمرار بدلاً من الانهيار إقتصادياً بسبب العقوبات الأميركية المفروضة عليها، وبالتالي فإن شراء الصين للنفط الإيراني يعطيها زخماً ونفوذاً إضافياً على إيران، واذا استخدمت بكين هذا النفوذ لإنهاء حرب اليمن فستكون قد حققت استثماراً كبيراً مع السعودية التي تريد انتهاء هذا النزاع.
الإتفاق السعودي- الصيني هو إنجاز ضخم للصين
السيدة درغام لا ترى أن رعاية الصين لهذا الاتفاق هو تحجيم لدور الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة،
وليس هناك أي دليل على أن الصين تنظر الى منطقة الخليج على أنها ساحة منافسة بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، والأمر نفسه ينطبق على الولايات المتحدة، لأن ليس هناك أي تعارض في تطور العلاقات الخليجية- الصينية ما دامت محصورة إقتصادياً وليست عبارة عن تكتلات أمنية، فما يهم واشنطن بالدرجة الأولى أن لا تكون الصين شريكاً أمنياً للدول الخليجية التي بدورها لا تريد أن تكون الصين شريكاً أمنياً بديلاً الولايات المتحدة، وما دامت العلاقة محصورة اقتصادياً، فالصين بدورها لا تسعى بأن تزجّ بنفسها كشريك أمني بدلاً عن أميركا، فهي ليست الشريك الاستراتيجي الأمني للدول العربية، وبالتالي لا أرى أن هناك غضباً أميركياً ساطعاً، انما المشكلة قد تكون في أن ما أسماه الرئيس الصيني شيجبيغ “مبادرة الثقة الاستراتجية”، وكلمة ثقة هنا تأتي كغمزة على الولايات المتحدة التي فقدت الكثير من ثقة الدول العربية بها وكذلك الخليجية ودول العالم، وبالتالي فالصين تريد أن تقول أنه “يمكن الاعتماد علي كشريك استراتيجي بعيد المدى مع الدول الخليجية والعربية”، لأنه وفي نهاية المطاف ما تريده الرياض من الصين ليس فقط أن تكون هناك علاقة اقتصادية، بل تريد استيراد التكنولوجيا من دون قيود وأن يكون هناك مشاريع نهضوية، وبالتالي فإن البيان الصيني- السعودي- الإيراني المشترك الذي صدر لم يتحدث فقط عن المسائل السياسية، بل تحدث أيضاً عن إحياء اتفاقيات سابقة كانت نهضوية واقتصادية وفي مختلف المجالات التعاون بين البلدين، لأن ما تريد الصين أن تقوم به هو ليس فقط رعاية مصالحة سياسية بين السعودية وإيران، وانما قفزة نوعية في العلاقات بين البلدين، علاقات تؤثر على كامل المنطقة، وهذا ما يُعدّ “إنجازاً ضخماً” للصين يميز القدرة الصينية على لعب دور عالمي في زمن انحسار الدور الروسي عالمياً، وفي زمن ازدياد قوة الولايات المتحدة بمفردها وعبر تحالفها مع حلف الناتو، وكما هو معروف فقد تم تأكيد انتخاب الرئيس الصيني لولاية ثالثة بإجماع كامل ومعارضة ” صفر” داخل بلاده، وهو منذ فترة طويلة أقلها لدى زيارته التاريخية للرياض كان يعمل على الصعيد الخارجي، وبالتالي يحق للصين أن تتباهى بإنجازها الذي ستكون له انعكاسات كبيرة ثنائياً وعالمياً على النظام العالمي الجديد وكذلك في منطقة الشرق الأوسط.
لا خلافات ولا توتر بين الأصدقاء
اليمن أول ساحة لانعكاس تداعيات الاتفاق
تؤكد درغام في معرض حديثها ل LebTalks أن الصين لا تحب التوتر ولا الخلافات في العلاقات بين أصدقائها، فهي تقول لإيران “إنتي صديقة” لكنك لست الصديقة الوحيدة، وفي القمة التي عقدها الرئيس الصيني في الرياض تم توجيه رسالة مهمة جداً لإيران مفادها أن زمن الترويكا الصينية- الروسية- الإيرانية قد ولّى، وذلك بسبب ما حدث في الحرب الأوكرانية التي غيّرت الموازين العالمية والإقليمية، فتلك الترويكا تفككت بسبب الحرب الأوكرانية، وبعد ذلك أبلغت الصين بطرقها الخاصة إيران أنه مرحب بها كصديق وشريك وحليف مستمر انما عليها أن تفهم أن هناك مصلحة للصين في علاقات استراتجية وتحالفية أيضاً مع الدول الخليجية العربية، وهذا ما أدى الى تغيير في فهم إيران للدور الصيني في المنطقة، وبسبب النفوذ الصيني مع إيران وحاجة الأخيرة للصين لاسيما الآن وهي في وضع صعب جداً بسبب تحالفها الميداني العسكري مع روسيا في أوكرانيا، إرتأت إيران أن من مصلحتها الاستماع الى الصين وربما على الأرجح تلبية مطالبها وأولها اليمن، إذ باعتقادي أن تداعيات البيان الذي صدر ستنعكس على أول محطة إقليمية التي هي اليمن، وهو أمر مهم جداً لكل الدول الخليجية وبالتحديد السعودية التي تريد إنهاء هذا الصراع، مع عزم على إنهائه من قبل القيادة السعودية والأمم المتحدة وحتى الولايات المتحدة، إذاً هذا الملف يحتاج فقط للضغط على إيران للقيام بما عليها أن تقوم به، فروسيا ربما تتعاون عن بعد في هذه المسألة لأنها مضطرة، لكن الضغط الأساسي سيأتي من الصين وعلى طريقة الصين التي هي طريقة “لبقة جداً”، فهي لا تهدد بإجراءات وانما تغمز بكل صرامة وحزم من دون التهديد ورفع العصا.
أما المحطات الأخرى، فأعتقد بأنها ستكون حيث تتواجد التنظيمات غير النظامية في بلاد الشام التابعة لإيران، ونحن نتحدث هنا عن حزب الله في لبنان، والتنظيمات المسلحة في سوريا والعراق.
على حزب الله أن يفهم الرسالة
وعن تداعيات هذا الاتفاق على لبنان تحديداً، لاسيما على ملف حزب الله،
تقول درغام:” لا أعتقد بأن الصين ستأتي بأسماء، مثلها مثل الولايات المتحدة، فهي لن تقول أنا هنا وهذا هو اسم الرئيس الذي أريده الآن بعد أن رعيتُ الاتفاق بين إيران والسعودية، بل أميل الى الاعتقاد بأن الأجواء نفسها ستؤدي الى نوع من التفاهمات السعودية- الإيرانية على نسق التفاهمات التي حدثت عند ترسيم الحدود البحرية جنوباً والذي تم ب” تأطأة رأس وغمزة” وموافقة إيران وحزب الله، وإلا لكن هناك تعطيل لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية، ومن جهة ثانية أعتقد بأن حزب الله سيقرأ الرسالة بصورة مختلفة، صحيح أننا سمعنا من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قبل ثلاثة أيام قراءة للعلاقة الإيرانية- السعودية من وجهة نظره وبأنها ستستغرق وقتاً طويلاً، ثم فوجىء هو نفسه بتوقيت الإعلان عن التقارب التاريخي بين الرياض وطهران عبر بكين، هذا الأمر يعني أن التفاهمات واسعة الإطار وعلى اللاعبين الصغار أن يفهموا الرسالة، فأنا لا اعتقد بأن هذا التفاهم يعني كما يقول فريق حزب الله أنه آت بمرشح حزب الله الى الرئاسة، بل على العكس فربما ستكون حظوظه أقل بكثير إن لم تكن معدومة لأن الأمر ليس عبارة عن تحدٍ، إنما هو بحث عن “حلول وسط”، فربما يكون قائد الجيش العماد جوزاف عون هو الحل الوسط لأنه ليس معلناً كمرشح لأحد الأطراف، أو قد يأتي أحد من المرشحين الذين تُطرح أسماؤهم من بعيد، من نوعية ” رئيس شركة” CEO يدير هذه التفاهمات بمعنى أحد الذين لا يتعاطون السياسة.
لا لرئيس تسوية بل رئيس يبني على التفاهمات
ورداً على سؤال حول التلميح الى أسماء مطروحة مثل جهاد ازعور والآن بجاني أو حبيب الزغبي؟
ردت درغام بالقول:”أنا شخصياً ألمح الى هؤلاء، فأنا من الذين يعرفون جهاد أزعور بكل مراحله السياسية وفي عمله في صندوق النقد الدولي، ليت الجميع يوافق عليه لأنه يملك فعلاً الكفاءات وليس لأنه ينتمي الى هذا الحزب أو غيره، وأنا أتحدث عنه بشكل خاص لأني أعرفه وأعرف كفاءاته البارعة كشخص قادر على إدارة التفاهمات، فهو لن يأتي ليتحدى حزب الله أو أي طرف كان، لأنه إذا أتى رئيساً فسيقوم بتنفيذ التفاهمات على الأرض، وليس كتسوية فأنا لا أعتقد أننا بحاجة الى رئيس تسوية، بل الى رئيس يقوم بالإصلاحات ويعمل وفق خريطة طريق واضحة ويبني على التفاهمات ويستفيد من الفرص من أجل النهوض بالبلاد، هذا هو الرئيس الذي نحن بحاجة اليه، وأنا أصرّ على أن للصين تأثير كبير على اختيار الرئيس اللبناني ليس بالمباشر، وانما بسبب ما رعته من تفاهم وإنجاز على صعيد العلاقات السعودية- الإيرانية، وأنا متأكدة بأن الصين لن تخرج من الساحة فجأة فهي ستبقى فاعلاً مهماً ومستمراً في هذا الإطار، أي أنها لن تقول “دعونا نترك الطرفين”، لأن أسلوب الصين يختلف عن الأساليب المعهودة، فهي أخذت على عاتقها مهمة وستمضي بها الى الأمام.