ماذا بعد تمرّد “فاغنر”؟ د. سالم الكتبي

تساؤلات كثيرة حول تأثيرات تمرد مجموعة “فاغنز” الذي قاده يفغيني برغوجين، الحليف المقرب من الرئيس بوتين، والذي وصف بالخيانة على لسان الرئيس بوتين ذاته، وهل يؤثر ماحدث على إدارة الحرب في أوكرانيا، أو بالأصح يؤثر في إستراتيجية إدارة الأزمة من ناحية الكرملين، وكيف يمكن للغرب أن يستفيد مما حدث، إن لم يكن لأي طرف غربي علاقة بما جرى من الأساس.

الحديث عن تداعيات/ تأثيرات لتمرّد “فاغنر” على حرب أوكرانيا يرتبط، برأيي، أساساً بحقيقة هذا التمرّد وحدوده وأبعاده، وهل كان حدثاً حقيقياً يستهدف منع اندماج جيش برغوجين الخاص ضمن الجيش الروسي، ويحوّل دون خضوع برغوجين لسلطة سيرغي شويغو وزير الدفاع الروسي، الذي لم يكن رئيس “فاغنر” مقتنعاً بقدراته كقائد عسكري، ظل يشكك فيها طيلة الأشهر الماضية، أم أن هذا التمرّد كان مجرد “سيناريو” سيّء الإخراج كما قال البعض في الغرب لتحقيق أهداف لم تطفو على السطح بعد.

أياً كان ماحدث فإن “فاغنر” ليست مجرد ميلشيا خاصة مسلحة، بعد ان كشف التمرّد عن حقيقة علاقتها بالدولة الروسية، وأنها مموّلة بشكل كامل من الخزانة الروسية، وهذا أمر يعني الكثير بالنظر إلى النفي الرسمي الدائر لأي روابط بين “فاغنر” والدولة الروسية، والتأكيد على أنها مجرد شركة عسكرية خاصة، وبالتالي فإن الكل سيتوقف عند علاقات وأدوار “فاغنر” التي تعمل في نحو 30 دولة، فضلاً عن كتائب الكترونية وقدرات سيبرانية تسببت في اتهامها بالتدخل في الإنتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.
أحد أهم التأثيرات الإستراتيجية المحتملة للتمرّد ينطلق من مصير قوات “فاغنر” التي تلعب دور رأس الحربة في حرب أوكرانيا خلال الآونة الأخيرة، وهل تظلّ هذه القوات تضطلع بمهامها مع نقل القيادة والسيطرة إلى الجيش الروسي بدلاً من قائدها المتمرّد بريغوجين، وهل يمكن بالفعل إدارة ملف نقل سلطة قيادة “فاغنر” من دون أي ارتباك أو تصدعات في خطط الجيش الروسي بأوكرانيا.
الرؤية الغربية، او بالأصح الأميركية لأحداث التمرّد مهمة للغاية، وفي ذلك قال وزير الخارجية الأميركية انتوني بلينكن “إذا وضعت هذا في السياق قبل 16 شهرا، فإن بوتين كان على أعتاب كييف في أوكرانيا، ويتطلع إلى الإستيلاء على المدينة في غضون أيام، ومحو الدولة من الخريطة. والآن، كان عليه أن يدافع عن موسكو، عاصمة روسيا، ضد مرتزق من صنعه”.
السيناريو الذي رسمه بلينكن للتحول الإستراتيجي الحاصل في الوضع الروسي مرهون بحقيقة ما حدث، وأن يكون التمرّد الذي دفع عمدة موسكو إلى دعوة سكانها للبقاء في منازلهم، لمواجهة “طعنة في الظهر” وما وصفه بوتين بـ”تهديد مميت للدولة الروسية”، حقيقياً، وأنه كان بالفعل يمثل تحدياً رئيسياً لسلطة الكرملين كما يراه الغرب أو معظم دوائره.
الواقع أننا، في ظل الغموض السائد”، أمام سيناريوهين للسلوك الروسي في أوكرانيا الأول ينطلق من صحة ماحدث يوم الثالث والعشرين من يونيو 2023، وأن كان تمرداً مسلحاً حقيقياً، وهنا يمكن الذهاب إلى إستنتاجات عدة تحليلية في مقدمتها أن الرئيس بوتين سينهج نهجاً مختلفاً على الصعيدين الداخلي والخارجي. وفيما يخص حرب أوكرانيا قد يسعى بوتين إلى حسم هذه الحرب بفاعلية وصرامة أكبر وربما إجراء تغييرات جذرية في قيادات الجيش الروسي ولكن بعد فترة من الوقت كي لا يقال أن التغيير يتم في إطار صفقة تم إبرامها مع يفغيني برغوجين، رئيس “فاغنر” الذي كان على خلاف حاد مع كبار القادة العسكريين الروس وطالما اتهمهم بالفشل وضعف الكفاءة، ولاسيما وزير الدفاع ورئيس الأركان الروسي.
ولكن المؤكد أن تمدد قوات “فاغنر” محدودة التسليح والتخطيط بمقارنة بالجيش الروسي لدرجة سيطرتهم على المنشآت العسكرية بواحدة من أهم المدن الاستراتيجية وهي مدينة فورونيج الواقعة على بعد حوالي 500 كم جنوب موسكو، بعد الاستيلاء على مدينة ورستوف، يظهر هذا التمدد جوانب ضعف أمنية عميقة وربما انقسامات وخيانات في صفوف القيادات العليا والوسطى للجيش الروسي. وهذا الأمر ـ لو صح ـ سيدفع بوتين إلى السعي بقوة لحسم حرب أوكرانيا بشكل سريع وربما صارم لاستعادة هيبته والسيطرة على المشهد مجدداً، وترميم صورته التي اهتزت عقب التمرّد، وهنا يمكن الحديث عن كثافة متوقعة وشراسة أكبر في الهجمات الروسية، ولاسيما على مستوى الهجمات الجوية والصاروخية لتحقيق تقدم ولو تكتيكي يتيح للكرملين الإسراع بقبول الوساطات أو تقديم مقترحات يمكن أن تكون مفتاحاً للتوصل إلى تسوية للأزمة الأوكرانية.
في إطار السيناريو السابق أيضاً يتوقع أن يكون الرئيس بوتين أكثر حدة في اللجوء إلى إستخدام العتاد الحربي لاستعادة هيبة روسيا على المسرح الدولي، وهذا يعني إمكانية اللجوء إلى أسلحة وذخيرة يمكن أن يكون بوتين قد تحاشى استخدامها طيلة الفترة منذ بدايات الحرب، ولكن الوضع الآن يحتم عليه اللجوء إلى أقصى درجات القوة كجزء من إجراءات إستعادة السيطرة على الحكم.
السيناريو المفترض الثاني للتمرّد الذي حدث في روسيا هو أن يكون هناك ما وراء الكواليس وأن يكون التمرّد جزءاً من “حبكة استخباراتية” تستهدف تحقيق أمر ما على الصعيد الداخلي أو الخارجي، أي في الداخل الروسي أو في إدارة حرب أوكرانيا، وهو سيناريو وارد بدرجة ما ولا يمكن استبعاده في ظل تسلسل الأحداث بين تصعيد متسارع وتراجع دراماتيكي وانتهاء للتمرّد بطريقة لم تكن مقنعة للكثيرين، إن لم يكن للجميع.
وفي حال صحة هذه الفرضية فإن جزءاً مما يتوقع من أهداف خفية سيرتبط بتوجيه الأحداث في حرب أوكرانيا، وهو ماتخشاه بالفعل دول مثل ليتوانيا التي باتت تشعر بقلق بالغ جراء انتقال قوات “فاغنر” إلى بيلا روسيا، حيث تستشعر خطراً بالغاً وسارعت إلى طلب مساعدة حلف “الناتو” لتعزيز أمن حدودها، وهو ما كرره أيضاً الرئيس البولندي أندريه دودا، الذي دعا الحلف إلى أن يكون يقظاً، وهو مايعني تخوف دول أوروبية من مخطط روسي محتمل لتوسيع دائرة الحرب بهدف إجبار الغرب على تقديم تنازلات لتسوية الأزمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى