مقارنة ظالمة بين ما كان وما هو الآن، بين بحمدون وذاكرة العز الذي كان والبترون وروعة الحاضر الذي يتحدّى الصعاب. كلاهما بلدتان سياحيتان في البلد المنهك لكن المقارنة بينهما تكشف المتغيرات السياسية والإجتماعية والثقافية العميقة التي طالت لبنان وغيرت وجهه كما دوره الذي عرف به عبر تاريخه الحديث. بحمدون العرب والخليجيين والمصطافين وبترون اللبنانيين والمغتربين والسياح العابرين…
بدءاً من ستينات القرن الماضي وفي سبعيناته تحول لبنان الى مصيف لأهل الخليج ولا سيما الكويتيين والسُعوديين وتحولت بعض قراه وبلداته الجبلية الى ضيع لهؤلاء يشترون فيها منازل وعقارات ويستثمرون فيها ويحيكون لأنفسهم أجمل الذكريات بين ربوعها. وكانت بلدة بحمدون المحطة محطة اساسية ودائمة لهم كما بحمدون الضيعة وبعض القرى المجاورة. وقتها كانت البترون بكراً، قرية ساحلية بسيطة يكاد لا يعرفها غير أهلها المقيمين فيها أو العابرين الى طرابلس أو منها يتوقفون فيها لشرب الليموناضة الشهيرة. لكن بين الأمس واليوم تغير الزمن وتغيرت معه بحمدون كما البترون.
فنادق خمس نجوم ومقاهي أرصفة ومطاعم وسهر وحفلات وخناقات لإيجاد طاولة تطل على الشارع العام. هكذا كانت بحمدون… زحمة ناس بالدشداشات البيض وسيارات فارهة الطول وأول موديلات الجيبات الرباعية الدفع. الأرصفة مصنع حركة والمحلات الفاخرة تعج بالزبائن يشترون ولا يسألون.
كان البيارتة يهجرون بيروت وضواحيها صيفاً ليصعدوا الى الجبال في روتين سنوي يرسم فصول حياتهم. لم تكن بحمدون بعيدة، ثلث ساعة بالسيارة من بيروت وما كان احد يحسب للبنزين حساباً. فستق العبيد وبوظة ورد وغزل البنات وجلسة في الأرلكان ونزهة في مدينة الملاهي وشبان وشابات يعيشون دقات القلب على وقع الموسيقى المنبعثة من المقاهي وزحمة السيارت وسط الشارع…هذا كان واقع بحمدون على مراحل زمنية مختلفة.
اليوم البلدة تجهد لاستعادة ولو جزء يسير مما كان لها من ألق، لكن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية كلها تعاكسها. وناسها الذين احترفوا أعمال الضيافة في ما مضى يبدون يوم مستسلمين. بلدية بحمدون المحطة ورغم صعوبة الأوضاع المالية للبلديات تقوم بكل ما تستطيع لإعادة إحياء البلدة وفق ما يقوله لنداء الوطن رئيس بلديتها د. فيليب متى. تؤمن الكهرباء والماء، تنير الشوارع، تنظم مهرجاناً صيفياً، تعيد تأهيل الملعب البلدي، تسعى لتنظيم الوجود السوري فيها، تفتش عن مساعدات وتطرح الصوت على أهلها لعودة فاعلة. لكن يداً واحدة لا تصفق. بحمدون بحاجة الى مصطافيها العرب للعودة الى ربوعها وإعادة فتح فنادقهم وبيوتهم وتفعيل استثماراتهم وبث الحياة في الشارع العام وتشغيل الحركة الاقتصادية فيه. من دونهم تبقى بحمدون كسيحة غير قادرة على النهوض.
إلا أن العودة المنتظرة للسياح الخليجيين ما زالت دونها عقبات محلية وإقليمية وتشابك معقد بين الأزمتين السياسية والاقتصادية في لبنان. فبحمدون التي كانت تعيش أفضل أيامها في العام 2006 عاش العرب المتواجدين فيها حينها حالة ذعر إثر اندلاع حرب تموز أجبرتهم على المغادرة بظروف صعبة وترك كل شيء خلفهم. لتعود الأمور وتتحسن في العامين 2009 و2010 وتستعيد بحمدون والقرى المجاورة زخمها السياحي. لكن الظروف عاندت بحمدون من جديد وهذه المرة خارجياً إذ شكلت الحرب في سوريا سداً منيعاً أمام عبور المصطافين الخليجيين بسياراتهم نحو لبنان كما اعتادوا أن يفعلوا، ليأتي بعدها الحظر الخليجي ويمنع مجيء مواطني الخليج الى لبنان.
هل يعود الخليجيون؟
د. فيليب متى يبدو متفائلاً هذا العام بعودة الخليجيين والكويتيين بشكل خاص الذين لم يمتنعوا كلياً عن المجيء رغم الظروف وظلوا أوفياء لبحمدون وقدموا مساعدات إنمائية لا تعد ولا تحصى للبلدة. ولكن حتى اليوم لم تفتح الفنادق الكبرى المملوك معظمها من كويتيين أبوابها في انتظار الحجوزات، والحجوزات الخليجية بدورها تنتظر الفنادق في حلقة مفرغة. الريس يجري الاتصالات اللازمة لإعادة فتح الفنادق لكن الكلفة التشغيلية عالية وتحتاج الى حجوزات «فول» لتتمكن من إعادة التشغيل. حتى المحلات والمتاجر والمقاهي في السوق لا يزال معظمها مقفلاً لأسباب كثيرة ربما لأن أصحابها يطلبون إيجارات عالية أو لأن المستثمرين يخشون من صيف باهت لا يعيد لهم ما استثمروه. تلك الشرارة التي ستعيد إحياء بحمدون لم «تشرقط» بعد وهذا ما يلمسه الزائر حين يتجول في شارع بحمدون الرئيسي.
حاولنا أن نستقصي من بعض الأهالي والزوار الخليجيين الاسباب. أحد البحمدونيين قال إنه لم يعد ممكناً لأهل بحمدون الذين استقروا في بيروت وضواحيها بعد أن تهجروا أن يفتحوا بيتين. بالكاد يأتون الى بيوتهم في عطلة نهاية الأسبوع، يحسبون حساباً للبنزين والمصروف وبعضهم لم يرمموا منازلهم للعودة أو أنهم هاجروا وتركوا خلفهم جراحهم. حتى أهالي بيروت من «الهاي سوسايتي» الذين كانوا يصطافون في بحمدون تغيرت أوضاعهم بعد أن ضاعت أموالهم في المصارف… «لماذا أؤجر محلي يقول سمير أحد أصحاب المحلات طالما أن المستأجر يريده بتراب المصاري بحجة عدم وجود حركة، المحلات السورية الشعبية تملأ المنطقة، فليستأجروا من سواي». يبدو محبطاً كالعديدين غيره ممن التقيناهم. لكن في المقابل ثمة حركة جديدة فمطعم حليم المعروف بتقديم العصافير سيعيد فتح أبوابه ومطعم olivo لم يتوقف مطلقاً ومقهى ستار باكس يخلق حركة لا بأس بها أما بوظة ورد فلا تزال تستقبل الزبائن بحب.
أحد الكويتيين ما زال مصراً على السكن في بحمدون لكنه يعترف أن الأمور تبدلت وأن متطلبات الكويتيين اليوم لم تعد كما كانت سابقاً يريدون الانترنت السريع والكهرباء الدائمة ويريدون السهر والدي – جي والحياة الليلة التي للمناطق الأخرى. يخشون أزمة الكهرباء والنفايات والشوارع المعتمة ولا يرتاحون لوجود اللاجئين السوريين في بلدة سياحية وحتى خط الشام نحو البقاع بات يشكل مصدر قلق لهم. لكنهم رغم كل ذلك مستعدون للعودة لأنهم يحبون لبنان وبحمدون بالذات. «ما ينقص بحمدون هو زعيم سياسي يعمل لنهضتها يقول المواطن الكويتي، مشكلتها أنها يتيمة…».
لسنا بحاجة الى إحصاءات وأرقام لندعّم بها الواقع السياحي الذي تعيشه البترون. حوالى 350 مطعماً ومرفقاً سياحياً في البترون. السوق القديم، الأزقة، الدكاكين العتيقة، البيوت، الشواطئ وحتى باحة كنيسة مار اسطفان، كلها تحولت الى مرافق سياحية. بيت المغترب اللبناني كان له دور في إحياء بلدة البترون القديمة وجبران فعل فعله في البترون بشهادة المحبين والكارهين.
«البترون مدينة سياحية منذ أواسط السبعينات يقول النائب غياث يزبك ومحطة لليموناضة والحلويات لكل العابرين نحو الشمال ومنه وفي التسعينات تحولت الى محطة للحياة الليلية، خبت بعدها قليلاً مع انتعاش بيروت لتعود الى التألق بعد تصحّر وسط بيروت نتيجة العوامل المعروفة. هذا التصحّر كما التحولات الاجتماعية في بعض المناطق اللبنانية ساهمت في تضييق المساحات وجعلت الحركة السياحية تنتقل الى مناطق جبيل والبترون. اليوم عدة عوامل ساهمت في نهضة البترون السياحية يؤكد يزبك أولها أن مساحة الاستثمار فيها غير محدودة وتمتد على مساحة المدينة وشاطئها كما التلال المحيطة بها. وتمتلك البترون مقومات سياحية مهمة أبرزها المعالم الأثرية مثل السور القديم والكنائس التاريخية إضافة الى انتشار المطاعم والحانات والحياة الليلية. الى هذا يضاف انفتاح أهل البترون وخبرتهم في العمل السياحي والتسهيلات الكثيرة التي أعطيت للمستثمرين ما اجتذب كل الباحثين عن بدائل لبيروت وللأماكن السياحية التي خبا وهجها».
عرفت البترون كيف تجتذب المستثمرين في السياحة ودارت العجلة، زوار أكثر واستثمارات أوسع والعكس صحيح…هل كان للسطوة السياسية للوزير جبران باسيل دورها في إحياء البترون؟ لا شك بذلك. البعض يقول إن البترون تحولت الى ميني- سوليدير وإن الوزير شريك مساهم في معظم الاستثمارات الكبرى. ويذهب هؤلاء أبعد في القول ان اربعة أو خمسة أسماء كبرى قد أعارت اسماءها الى الوزير فهي الواجهة وهو الأصل. شائعات ربما أو حقائق لكن ما هو أكيد أن فورة البترون السياحية لم تخضع لتخطيط يحفظ للمنطقة وجهها السكني والاجتماعي. البيوت السكنية تحول معظمها الى Airbnb والدكاكين العتيقة صارت بوتيكات أو pubs والاستثمارات العائلية القديمة تكاد تختفي لحساب استثمارات كبيرة. حتى الشواطئ العامة التي كانت مفتوحة لأهل البترون وزوارها اجتاحتها الاستثمارات السياحية، فهل جاء ازدهار البترون السياحي على حساب أهلها؟
في جولة على بعض أهالي البترون نجد أنهم لا يختلفون في غضبهم وإحباطهم عن أهل بحمدون وإن لأسباب مختلفة. يريدون السياحة أكيد ولكن ليس على حساب راحتهم. التلوث السمعي يمنعهم من الاستراحة نهاراً وليلاً وزحمة الناس المخيفة في شوارع البترون وأزقتها تجعل من الصعب على أبنائها إيجاد مكان لركن السيارة. حتى ان أحدهم اعترف أن ضغوطاً مورست عليه ليترك البيت الذي كان يستأجره إيجاراً قديماً ليتم تحويله الى مطعم. «انظري حولك لم يعد هناك مستأجرون، كلهم تركوا البيوت والمحلات التي كانت لهم، نالوا تعويضات بلا شك حرزانة لكن كم يمكنهم الاستفادة منها في زمن تآكل الليرة؟».
سيدة التقيناها خارج البترون تقول «انتقلت الى خارج البترون مرغمة لم يعد بإمكاني تحمل العجقة اليومية، بلدتنا لم تعد لنا وليتنا نستفيد من هذه الحركة كما يجب. معظم العاملين في المطاعم ليسوا من أولاد البترون. علينا أن ندفع للنزول الى البحر».
لكن في مقابل هذه الاعتراضات التي تدعي أن المستثمرين من خارج البترون هم الرابح الأكبر وأن أهل البترون دفعوا ثمناً باهظاً لفورة منطقتهم لا شك أن ثمة أعمالاً صغيرة ازدهرت لتعود على البترونيين بالفائدة مثل التوكتوك وسيارات الغولف للجولات السياحية والدراجات الهوائية والسكوتر وبيع الليموناضة والبوظة والحلويات البيتية الصنع والأشغال اليدوية وغيرها. كما ساهم امتلاء البترون بتوسع الأنشطة نحو الشواطئ القريبة والتلال المطلة على البترون ما ساهم في انتعاشها وارتفاع اسعار عقاراتها.
واقعان سياحيان مختلفان في بلد واحد إنما يعكسان الفوضى وعشوائية التخطيط ويبرزان ارتباط السياسة بكل مفصل من مفاصل البلد.