النزاع على ملكيّة القرنة وتطوّراته… بشرّي”لا مساومة”!

تتميّز بشرّي بطبيعة ساحرة، فهي ترتفع عن سطح البحر نحو 1,400 متر، وتعانق أحلامها الضباب. يحفّها وادي قنّوبين، وادي النسّاك والمتصوّفين الموارنة، ويشرف عليها جبل المكمل الذي تتربّع القرنة السوداء على عرشه الشاهق العلوّ، ويخترقه وادي قاديشا باتجاه الغرب، وفيه تتدفّق مياه نهر قاديشا الذي يصل إلى طرابلس فيصبح “أبو علي” ويسكب مياهه في جوف البحر.

في القرن السابع الميلادي شكّلت بشرّي والجبال والأودية المحيطة بها ملاذاً للموارنة المضطهَدين، فتحوّل وادي قاديشا إلى المركز الروحي للكنيسة المارونية. وصدّرت القدّيسين والرهبان إلى مختلف المدن والدساكر، فتمورنت أغلبها بجهدهم وزهدهم. لذا ليست غريبةً نسبة الالتزام الديني الكبير السائدة في بشرّي حتى اليوم.

يستمدّ أهلها صلابتهم التي لطالما اشتهروا بها من تضاريس البلدة القاسية، ومن شجر الأرز المعمّر. تبدو الجذور الفينيقية واضحة بدءاً من الاسم، فبشرّي تعني منزل عشتار، أحد الآلهة التي كان يعبدها الفينيقيون.
في عهد المماليك، برز نظام سياسي داخلي في المناطق والأرياف البعيدة عن سلطة الولايات المركزية، إذ عُهد إلى زعامات وعائلات محلّية تأدية دور الوسيط أو الوكيل عن الدولة، وعُرف هؤلاء الوكلاء عند الموارنة بـ”المقدّمين”، وكان مقدّم بشرّي رئيسهم جميعاً، ولذلك تُعرف بشرّي إلى اليوم ببلدة المقدّمين.

يذكر المؤرّخون أنّ سلطان المماليك الظاهر برقوق دخل بشرّي بعدما فرّ من محبسه في الكرك بالأردن عام 1338 م، وكان متنكّراً بزيّ درويش، فقام بتعيين الشدياق يعقوب بن أيوب مقدّماً وكتب مرسوماً بذلك. ثمّ بات في دير سيّدة قنّوبين، فأُعجب بحياة الرهبان وزهدهم، فكتب صحيفة أخرى بإعفائهم من الرسوم.

هذا الإرث الديني والسياسي العريق طواه قيام دولة لبنان الكبير، التي تحوّلت بشرّي في عهدها إلى بلدة نائية ومحرومة من الإنماء، وعانى أهلها من تأثيرات الصراع بين موارنة الجبل وساحله وموارنة الشمال، الذي ما يزال يلقي بآثاره على الساحة السياسية. كانت الحياة السياسية فيها قائمة على الصراع بين العائلات، مثلما هو الحال في زغرتا المجاورة، من دون أن تنجح الأحزاب الأيديولوجية المسيحية في اختراقها.

مع ذلك، حمل أبناؤها السلاح للدفاع عن القضية المسيحية منذ الأيام الأولى للحرب الأهلية، إذ أسّس نائبها جبران طوق “لواء المقدّمين”، ونائبها الآخر قبلان عيسى الخوري “لواء قاديشا”، وشارك اللواءان في معركة شكّا ضدّ الفلسطينيين في تموز 1975، التي قُتل فيها شبل نجل عيسى الخوري.

بقي هذا الواقع إلى أن بزغ نجم المتصوّف والمتمرّد على سلطة العائلات الإقطاعية سمير جعجع. في وجدان أهل بشرّي، يُعتبر تحوُّل جعجع إلى قطب سياسي بارز في المعادلة الوطنية تكريماً بمفعول رجعي للإرث الماروني المقدّس لبشرّي، وردّ اعتبار لجعجع بعد المظلومية التي تعرّض لها في زمن الوصاية السورية.

ما تزال بعض آثار الحرمان ماثلة بوضوح أمام الأعين. أبرزها الطريق الواصلة بين إهدن وبشرّي “البكر” منذ أيّام الفرنسيين، والتي يشعر السالك فيها أنّه سيقابل وسائل المواصلات القديمة من دواب وأحصنة وعربات. ثمّة من يرمي باللائمة على القطب الزغرتاوي سليمان فرنجية، صاحب النفوذ في عهد الوصاية السورية، و”صاحب” وزارة الأشغال في العديد من الحكومات، انطلاقاً من العلاقة التاريخية المتوتّرة بين بشرّي وزغرتا المدينة، ويستشهدون على ذلك بطريق إهدن التي تخضع للتعبيد والصيانة باستمرار.

في المقابل يُسجّل لنوّاب القوات نجاحهم في إنجاز طريق الكورة – بشري التي تمرّ بالديمان، بالإضافة إلى مجموعة أعمال أخرى من تعبيد طرقات، وجرّ مياه الشفة إلى قرى كانت محرومة من شريان الحياة، والجهود الكبيرة التي بُذلت في التعليم الرسمي والخاصّ والسكن الطلّابي، وصولاً إلى مستشفى أنطوان الخوري ملكة طوق الحكومي الذي سيتمّ افتتاحه بعد أشهر قليلة بجهود ومتابعة النائبة ستريدا جعجع، وسيضع حدّاً لمعاناة بشرّانيّة قديمة الأزل كانت تؤدّي إلى وفاة البعض قبل الوصول إلى أقرب مستشفى على بعد نحو ساعة بالسيّارة.

نسأل رئيس بلدية بشرّي فريدي كيروز عن سبب عدم مطالبة أهل بشرّي ووجهائها بالقرنة السوداء منذ تأسيس الكيان حتى عام 2005، فيجيب: “لماذا يطالب أحد بشيء يملكه؟”. يشير كيروز إلى أنّ بلدية بشرّي أُسّست قبل قيام دولة لبنان الكبير، وهي وحدها من كانت تملك حقّ تلزيم المراعي في المنطقة إلى الرعاة بموجب دفاتر شروط عن طريق مزايدات علنية.

“لم يكن هناك تماسّ مباشر مع أهالي بقاعصفرين، فحدودنا مع عرب الفوار الذين لديهم عقارات ومقبرة في المنطقة منحتهم إيّاها الدولة العثمانية، بعدها جرد الإجاص التابع لبقاعصفرين”. ما دام كلا الطرفين يعتبران ملكية القرنة السوداء محسومة، فلماذا لم يبدأ النزاع إلا عام 1998، وتطوّر بعد عام 2005؟

يشير أحد مخاتير بشرّي الذي رفض ذكر اسمه إلى أنّ النزاع بدأ مع تمديد أهالي بقاعصفرين نباريش لاستجرار المياه من ثلّاجات القرنة السوداء، فكان لذلك تأثير سلبي للغاية على ينابيع المياه التي تغذّي بشري أرضاً وشعباً. “حدثت مفاوضات بين نواب المنطقتين واستمرّت لفترة طويلة من أجل التوصّل إلى اتفاق حول مياه الثلّاجات. وعلى أساس اتفقوا، لكنّنا فوجئنا بمشروع إقامة بركة سمارة عام 2019، فتمّ تجميد الاتفاق وتطوّر النزاع فيما بعد”.
والحال أنّ الاتفاق بين النواب كان شبه مستحيل بسبب القوانين الانتخابية الفئوية. فكلّ نائب لا بدّ أن يحسب ألف حساب قبل أن يُقبل على ما يُعتبر في المزاج الشعبي تنازلاً ولو عن شبر من القرنة السوداء، لأنّ ذلك سينعكس عليه سلباً في صناديق الاقتراع.

بحسب من وقفنا على رأيهم، فإنّ الموضوع لا دخل له بالسياسة، بل لمسنا تكتّماً نسبياً، وحرصاً شديداً على العيش المشترك، “نحن شعب واحد ومحكومون بالتعايش والتوافق، ولا داعي لتعقيد الأمور، المياه أمرها سهل. لدينا مشاكل جمّة في البلد، والأَولى والأهمّ تأمين معيشة الناس. أمّا ملكية القرنة السوداء فلا مساومة عليها، وهذا موقف بشرّي الموحّد بكلّ أطيافها السياسية”. عمليّاً أتى التصعيد من خارج بشرّي، حينما أُدخلت القضيّة في دهاليز السياسة فأصبحت “قضية مسيحية”.

النزاع وتطوّراته
يقول رئيس بلدية بشرّي فريدي كيروز إنّه بناء على طلب الجيش واستخباراته حصل اتفاق سُمح بموجبه لأهالي بقاعصفرين بمدّ 5 نباريش لاستجرار المياه من الثلّاجات، “لكن الـ5 نباريش أصبحوا 55. اعترضنا كثيراً من دون جدوى. ثمّ أخذ أهالي بشرّي قراراً بإزالة النباريش وأبلغنا استخبارات الجيش بذلك”.

ينفي المخاتير ورئيس بلدية بشرّي وقوف القوّات خلف المجموعات التي كانت تقوم بقطع نباريش المياه، ويشيرون إلى أنّ شطراً واسعاً من أهالي بشرّي كانوا معارضين منذ البداية للتسوية المؤقّتة، وهم من قطعوا النباريش، “وليس لدينا تأثير عليهم”.

يلفت كيروز إلى أنّ بلدية بقاعصفرين “هي من ذهبت إلى المحكمة العقارية عام 2013، وكلّفت 3 مسّاحين من عندها لترسيم حدودها العقارية بالاستناد إلى خرائط الجيش اللبناني، التي لا يعوَّل عليها قانوناً”. يضيف كيروز: “بعدها أرسلوا كتاباً إلى محافظ الشمال، طالبين تحويله إلى مصلحة الشؤون العقارية لتثبيت الحدود. وهذا المسار مخالف للقانون، فالحدود العقارية محدّدة بمرسوم، ولا تعدّل إلّا بمرسوم” (الأمر نفسه شدّد عليه رئيس بلدية بقاعصفرين).
تطوّر النزاع عام 2019 حينما شرع المشروع الأخضر بوزارة الزراعة في إنشاء “بركة سمارة” لريّ الأراضي الزراعية، فاعترضت بلدية بشرّي ونوابها وأهلها. يشير كيروز إلى أنّ محافظ الشمال رمزي نهرا “أوقف المشروع لأنّ المنطقة غير محدّدة عقارياً. وأصدر قاضي الأمور المستعجلة قراراً بإيقاف المشروع لأنّ بلدية بقاعصفرين ليست لديها مستندات تثبت ملكية الأرض. واتّخذ مجلس شورى الدولة قراراً في المنحى عينه”.

وصل الأمر إلى وزير المالية حينها علي حسن خليل فاتخذ قراراً بتسمية 4 مسّاحين وتحويل الملفّ إلى القاضي العقاري في الشمال. يقول كيروز: “قدّمنا وإيّاهم مستندات، ثمّ استمعت القاضية إلى كبار السنّ والمخاتير في كلتا البلدتين في جلسة استمرّت 8 ساعات. وصعدت بعدها مع الأشخاص الذين استمعت إليهم برفقة مدير الشؤون العقارية لتحديد النقاط على الأرض”. يأسف كيروز لكون بلديّة بقاعصفرين قدّمت طلباً لكفّ يد القاضية العقارية تيريز مقوم عندما تبيّن لها أنّ حكم القاضية لن يكون في صالحها، فـ”لماذا لم يقدّموا طلب كفّ يد القاضية منذ بدء النظر في القضية قبل 4 سنوات؟”.

يأسف أيضاً لعدم التزام البعض بالأعراف القروية التي تقضي الوقوف على خاطر أهل الشهيدين. ويسمّي البعض النائب جهاد الصمد بالاسم، فهو من سبق أن أقحم رمزاً دينياً بالقضية من باب التجييش الانتخابي. يتساءل كيروز: “لماذا لم تحصل مشاكل بيننا وبين أهل الهرمل على الرغم من الاختلاف السياسي والمذهبي؟ لماذا لم يحصل خلاف مع العرب؟”، ويخلص إلى أنّ “الهدف من كلّ ما حصل هو انتزاع ملكية القرنة السوداء، فالمشكلة ليست في المياه. نحن ملتزمون بما يقرّه القضاء، وإذا لم نحتكم إلى القانون فإلى ماذا سنحتكم؟”.
السؤال الأهمّ: لو صدر حكم عن أيّ محكمة لصالح هذا الطرف أو ذاك، فهل يقبل به الطرف الخاسر؟ وما هي آليّة تطبيق هذا القرار في ظلّ الحدود المفتوحة على مصراعيها في المنطقة الجبلية المترامية، ودولةٍ استقالت من واجباتها وتحلّلت أغلب مؤسّساتها؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى