في ضياع أصحاب الفخامة؟

ولأنّ الحبر على شفة أن يصير حروباً… وهذا يعني بحوراً من دموع لا سمح القضاء والقدر، ولأنّ المكتبات النفيسة بحبرها ومفكريها ودكاترتها ومؤلّفيها باتت تُباع تحت جسور بيروت والكتاب بـ 5 ليرات قشة لفّة، كان هذا النص من لبنان الخطير ولنصلّي جميعاً بطوائفكم الـ 17 ألاّ يتذكّر العالم ما فعله هولاكو المغولي في مكتبات بغداد إذ يرى كيف يتفتّت لبنان بقضّه وقضيضه وفكره وكتبه وأشعاره تحت الجسور وفوق سطح البحور الطافية بأكوام القمامة التي ملأت الشوارع والساحات وجرفت معها الفكر في لبنان.

المطلوب، إذن، ربّما إقفال كليّات الإعلام… ووزارة الإعلام وتلفزيون لبنان وتلفزيوناته والإذاعة اللبنانية والإذاعات الكثيرة والمجلس الوطني للإعلام المرئي المسموع وتسليم الإعلاميين القبضايات والإعلاميات الفاتنات وأصحاب دور النشر والمكتبات العامة والخاصة ولتنشغل بهم الصحافة والمواقع بخبرٍ عابرٍ سخيف أن سافر أو غادر إعلامي أو إعلامية إلى موسكو أو واشنطن أو اليابان أو باريس وينشرون صورهم وكأنهم وصلوا الفضاء.

 

عيب! ماذا هذا؟

 

وماذا يعني هذا؟

وماذا تعني لكم السلطات بعد! نعم… السلطات كلّها في لبنان… وأرى الخوف في وجوهكم من أن ينشب القتال فوراً ونترقّب النتائج… ولا أسف على الكتابة والإعلام كي لا نقول من الآن مجدّداً: للأسف على لبنان!

 

أتذكّره وقع عليّ صدفةً قائلاً أنّه إعلامي وكاتب وناشط. حتى الآن لم أفهم الفرق بين صحافي وإعلامي وفكر وكاتب إلاّ بالإصبع فوق جبين صاحب الصورة. جذبتني آثار الكذّابين العتيقة التي ما زالت عالقة بمنكبيه. ذقن الكاتب المذكور لم تعرف موساً يشذّبها. أنفه متراخٍ بالهموم القديمة العربية والفلسطينية والجنوبية والشمالية العالقة فيه. خلطة نضال لا تفهم بداياتها من نهاياتها. عيناه حبّتان من زبيبٍ يابس عتيق تنفتحان على بلاهةٍ وانكسار. قلت هذا مثقف يساري لم يسمع بسقوط الإتّحاد السوفياتي بعد، ولم يرَ الصليب المتدلّي فوق الصدر العاري للرئيس بوتين قاطعاً النهرالمتدفّق فوق ظهر الدب الأبيض.

ناولني بطاقته الشخصيّة. أثار انتباهي قياسها الكبير في تجاوزه لما تعوّدناه من حاملي البطاقات إعلاميّين وإعلاميات ورجال فكرٍ وتجارة من ذريّة هولاكو. قلبت البطاقة. قرأت إسمه وشهرته وعنوانه وهاتف دكّان جاره كما شرح لي مقاطعاً بأنّ هاتفه مقطوع مثل ظهر لبنان. لفتتني فوق هذا كلّه، كلمة صفته “مدير عام” بالخطّ الرقعي النافر بحروفٍ مذهّبّة.

عندها وقفت أمامه جيّداً.

صافحته مودّعاً ، وفهمت متابعاً بأنّه صاحب دار نشر أيضاً متعدّد مهن الحبر والإعلام. ربّما يقلع الرجل النصوص، يقشّرها، يوزّعها وقد يساعد في تأليفها… ويبيعها كأنّها ملكه وملك أولاده وأحفاده وهو يشارك في على حساب الكتاب والمؤلّفين في معارض الكتب اللبنانية والعربيّة وله وزنه في عالم الضاد، ولربّما هو متمكّن في فنون طباعة القرآن الكريم والكتب المدرسيّة والتزاماتها خدمةً للدول والأنظمة العربيّة والإسلامية ونهضاتها.

دعاني لزيارته… شكرت ورحت أتذكّر ناشراً عفواً تاجراً لبنانيّاً كان يشحن الحشيشة و”الكبتاغون” في صناديق الكتب المدرسيّة التي يلتزم طباعتها خدمةً للإسلام والبلاد العربيّة.

ذهبت علّني أنشر مخطوطةً مهملة لي لم يلتفت إليه الناشرون. وجدت موظّفين في طابقٍ أرضي من بناءٍ مهدّم وكأنّه محتلّ. الموظّفان هما أمّه الملفوفة مثل جدّتي بالأسود تحضّر كؤوس الشاي وتقدّمه للضيوف، وأخوه الجاهز لتلقّي نظرات الغضب وشتائم “المدير العام” وأوامره التي لا تنتهي عند عرض الكتب فوق الطاولات.

وبسببٍ ومن دون سبب، فهمت من والدته، وأنا بانتظاره في مدخل البيت، أنّها كانت تعمل في الفلاحة والرعي قبل مواسم التهجير، وفي الصيف كانت تبيع القثاء والتين تحت خيمةٍ من الوزّال في منطقة الأوزاعي بسبب التهجير لكنها الآن وللضرورة سكرتيرة تساعد ولدها في مجال الطباعة والنشر.حنوت موحياّبتقبيل يديها قبل أن تدعوني للدخول.

بدأنا الإجتماع مع المدير العام. كان يقاطعني كلّ فترة معتذراً مطرقاً الباب خلفه. كان يخرج إلى الدار وأسمعه يصرخ بصوتٍ متردّد بين علوه وانخفاضه: كش…كش.. ولك كش. ثم قبل معاودة الدخول يشتم أخاه قائلاً: إنتبه للدجاحات شوي “جرّصتنا”. لا تترك الدجاجات فوق رفوف الكتب. يعاود الدخول مبتسماً، يعتذر مرّتين ويكمل تنظيره في الثقافة وانتقاد الإعلام والفكر المعاصر والسياسيين ليصمت عند صياح الديك في الخارج. انسحبت بمتعة هائلة وفرحٍ طفولي. وقلت في نفسي: هذا هو بكر رهيب من أرحام عشواء في أرضنا. ليتني أتمكّن من إقناع دجاجاته بكتابة مذكّراتها بين الجنوب والأوزاعي…لأنّ بين المكانين لم أقرأ إلاّ تاريخاً لم يسمع به أهالي بيروت المرابع ولم يدوّنه القصف الإسرائيلي ولا التهجير ثمّ العودة.

كان الجنوب أمس عربّة محمّلة بالفرش والأغطية والحقائب الممزّقة والأكياس تتنقّل بين ضواحي بيروت وقرى الجنوب. من أسماها الضاحية؟

صارت الضاحية سيدي شامة بل الشّامة فوق خدّ بيروت يا “صاحب الفخامة فخامة الوطن لا الرئيس المعزول وحسب”، في وطن يبيض العشوائيين والهولاكيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى