“غريب الناس” بقلم الكاتبة نجاح المطارنه

التقيت بها بعد غياب طويل، دام لأعوام، لم أعرف عنها إلا القليل، بادرتني قبل أن أبدأ الحديث. لا تقلقي يا عزيزتي سأروي لك كل شيء عن غربتي.

عشت في عتمة قاتلة مخيفة. المكان الذي اتكأت عليه كان يعجّ بأصوات العواصف الهائجة، لا زلت أسمع صداها الذي لا يُنسى لأنها تسمّرت في الذاكرة مستودعا لكل أحداثي.

نيران مشتعلة من هنا وهناك التهبت غيظاً فأكلت الأخضر واليابس وحرقته بلا رحمة وبلا إدراك.

تاالله ما أصعب عتمة هذا المكان، وأنت تعيشين الغربة تطوق عنقك رغماً عن أننا نعيش مع من نحب. لكن لا سبيل لارتشاف رحيق الهدوء والراحة طالما في المكان جهلة ومثقفون تحوّلوا جميعاً إلى آلات صماء، نسوا أو تناسوا العاطفة والمشاعر. وأصبحوا أرقاماً لا تحمل أي معنى للطمأنينة، وإنما سجلات تملؤها المصاعب والخداع دفعتهم جميعاً إلى نكران كل جميل.
جمعٌ غفير من الناس تعرضوا لظلم هؤلاء، وأنا واحدة منهم. تجسّدت أمامنا مظالمهم التي أفقدتنا في سباقاتنا مع الزمن كل ما سعينا لتحقيقه. لذا اندفعنا لعمل كل ما هو ممكن لنثبت للجميع بأننا الأفضل والقادرون على الفوز دوماً. المتّحدون، الثائرون على كل ما هو مألوف. لماذا ؟؟ ليُذكر إسمنا مع الأبطال ونسجل في ذاكرة من نريد تاريخاً ممزوجاً بالقوة والتحدي والثورة. حتى أصبحنا دمى تتحرك دون مشاعر، بلا إيمان ولا قلب نسير على نهجٍ لم يكن يوماً مرسوماً لشخصنا، ولم نسطّره أبداً بأيدينا. بل هي غربة الأيام والناس فرضت علينا أن نلبس ثوبها الكالح القاتم الذي لا يليق بنا ولا يناسب أجسادنا، فحولتنا إلى غرباء.

غريبو الناس والحياة ليسوا أسطورة ولا نسجاً من الخيال.
غريب الناس إنسان يعيش ربما في أغلب البيوت يفتقد الشعور بالأمان لكثرة ما تعرضت حياته لمؤامرات، حطمته فجعلت منه إنساناً آخر افتقد إنسانيته وأنسته نعم الله عليه وهي كثيرة، وجعلته يحيا حلماً ضائعاً تائهاً يأخذه الخيال إلى البعيد البعيد، دون أن يعرف ما يدور حوله حتى نسي من هو ومن يكون؟ لبس عمامة المتغابين الفاقدي البصيرة، فكفر بكل ما حوله، صار ثائراً غاضباً، ناقماً، كارهاً. وما أن وصل إلى ما هو عليه بدأ يتساءل، لماذا وكيف أصبحت هكذا ؟ وهذا أنا لم أكن يوماً ما ! من محبي هذه الغربة الموحشة. لماذا أصبحت قاسية متجهمة وأنا أعلم جيداً بأنني أحمل قلباً نابضاً بالحب والحنان الذي لا حدود له لكل من أحببت. لماذا ظلمتني الحياة فحولتني إلى هذا النكران البشع الذي لم يكن يوماً مكتوباً في قاموس حياتي. هل يسامحني الله لأنه يعلم أنني أضعف بكثير من الصورة التي حاولت أن أثبت فيها قوتي وقدرتي ووجودي رغم ضعفي.. وفي غفلة عشتها مع نفسي وتساؤلاتي تملكتني روحانية غريبة دافئة أيقظتني من سباتي العميق، وبسطت أمامي صوراً عظيمة بقدرة الخالق، وثبّتت بين يدي أجمل ما كنت أملكه سابقاً، ألا وهو الإيمان، وبشفافية لا تنسى عاد قلبي ينبض بالحب والحياة والتقرب لله سبحانه وتعالى. سرعان ما سجدت بين يديه خاشعة سجود المرتجي الطالب الرحمة من رب رحيم كريم.

أكرمني فمنحني الراحة وهدوء النفس وأعاد إليّ الثقة بأن الحياة مهما قست. والظروف الصعبة تعاظمت. وزاد الغيظ الماكر في قلوب الحاقدين. كلها فقاعات مصيرها الزوال. لن تضعف الطيبين ولقنني الاٌيمان بأن القوة ليست بالعداء والقطيعة. والثورة ليست بطولة، والغضب لن يكون العلاج الشافي للألم، فسرعان ما خلعت رداء الغربة وسحقت الصعاب بالاعتماد على الله عزّت قدرته، وعلى المحبة التي منحوني إياها أحبتي الصادقين الذين عاشوا معي محنتي. وهكذا بدأت أرى زهاء الألوان وصفاءها. وأشتم الروائح العبقة من كل أركاني المهجورة التي افتقدتها زمناً طويلاً.
الحمد لله، لقد بدأ النور يسطع ينير كل مساحاتي الفسيحة ، أشكره تعالى على كل هذه النعم التي أعادها إلى وكان اعظمها ارتدائي ثوب الصلاة والتعبد الذي لا يعرف زيفاً ولا كراهية. حوّل أيامي حلوة جميلة بلا غضب وبلا ثورة. وجعل قلبي خاشعاً شاكراً، كلما سجدت في صلاتي أجد نفسي محشورة في زاوية التساؤلات. لماذا كنت غريبة الناس؟ ومتى وكيف ولمن؟ أسئلة مطروحة لم تعد تهمني الإجابة عليها ، لأن رحمة الله الواسعة أوصلتني قمة الإيمان: بأن الليل الدامس مهما طال لا بد وأن ينجلي. والظلم مهما استشاط لا بد وان ينقشع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى