كتاب الأمير.. سبعة فصول

إطلالة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، عبر شبكة “فوكس نيوز”، متحدّثاً بالإنكليزية، ومقدِّماً سردية متعدّدة الأوجه عن بلاده، ليست حدثاً إعلامياً سياسياً وحسب. إنّها فصل من فصول “كتاب الأمير” الذي يعيد صياغة هويّة بلاد بأكملها.

1- القوميّة السعوديّة

اختار الأمير محمد عشيّة اليوم الوطني السعودي لإجراء مقابلته، وهي خطوة محسوبة في سياق العمل الحثيث على تطوير هويّة وطنية وقومية سعودية، البادئ منذ أن تصدّر هذا الشابّ صورة المملكة. صورةً ونصّاً، أراد الأمير أن تكون إطلالته رافداً من روافد الفخر والاعتزاز للمملكة وشعبها، أمام العالم، في هذا اليوم بالتحديد.

وهو يطلّ أيضاً، على الجمهور الأميركي، بعد خمس سنوات من جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في إسطنبول، أي اليوم الذي أريد له أن يختصر تاريخ المملكة المديد، ومستقبلها المعبّأ بالإمكانات العملاقة.

تحدّث عن موقع بلاده في العالم وأهميّتها بالنسبة للأسواق وطرق التجارة والأجيال الطامحة إلى فرص الاستثمار الجديدة في عالم مزنّر بالحروب، ومفخّخ بألغام النموّ المتعثّر. قدّم، بشخصه، السعودية والسعوديين كفرصة لكلّ أهل الأرض.

إطلالة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، عبر شبكة “فوكس نيوز”، متحدّثاً بالإنكليزية، ومقدِّماً سردية متعدّدة الأوجه عن بلاده، ليست حدثاً إعلامياً سياسياً وحسب. إنّها فصل من فصول “كتاب الأمير” الذي يعيد صياغة هويّة بلاد بأكملها

لأيّام تلت ملأت صورته مواقع التواصل الاجتماعي الصانعة في زمننا وعالمنا للمخيال العامّ. أعقبتها فيديوهات نجوم كرة القدم العالميين مثل نيمار ورونالدو يشاركون في احتفالات اليوم الوطني وهم يرتدون الزيّ الوطني السعودي بكامل تفاصيله. الرسالة واضحة: الهويّة السعودية هي هويّة ثقافية وسياسية حاضرة، متوثّبة، منطلقة ومدعاة لفخر السعوديين المستحَقّ، كما لفخر العالم.

2- تحوُّل في اللغة والتركيز

استخدم وليّ العهد لغة مغايرة تماماً للخطاب الشائع في الأوساط السياسية العربية، إذ كان تركيزه على القضايا الاقتصادية أوّلاً مثل سلاسل التوريد وتقنيّات الاتصال. والانحياز الذهني والعملي للبيانات كأساس في صناعة السياسة، ومن دولة بحجم السعودية وحجم ما تواجهه من تحدّيات، يشكّل نقطة تحوُّل استراتيجيّة في العقل السياسي العربي. فالسعودية ليست هونغ كونغ أو سنغافورة أو دبي، بل عملاق جيوستراتيجي، تتداخل في صنع مصيره حزمة هائلة من الأحداث السياسية والأمنيّة والعسكرية. مع ذلك بدا الأمير متحرّراً من أوهام اللعبة الجيوستراتيجية وتوازنات القوّة الصرفة، طارحاً، بدل من ذلك، الاقتصاد والنموّ والشراكات مدخلاً لصناعة السياسة الخارجية للمملكة. حتى عندما تحدّث عن العناصر الجيوستراتيجية، ظلّ يقظاً لضرورة إدماجها في رؤيته الاقتصادية للمملكة والعالم. فالموانئ والمطارات وسكك الحديد وخطوط الإمداد والتموضع الجغرافي، في قاموسه، لا تندرج تحت فصل العسكر، بل تحت فصل الربط الاقتصادي والاستثماري ومتطلّبات النموّ.

3- الإلهام لجيل جديد

اختار الأمير محمد مفرداته بعناية ليكون خطابه طاقة إلهام لجيل سعودي وعربي جديد. سواء كنت لاجئاً يحلم بحياة أفضل أو مهاجراً يركب قوارب الموت، أو مقاتلاً في ميليشيا ما على خطوط الانقسام المذهبي وجنون الميثولوجيا، أو مواطناً مسحوقاً في العراق أو السودان أو سوريا أو اليمن أو لبنان أو فلسطين، فإنّ رؤية محمد بن سلمان للمستقبل تعِدك بما هو أفضل، وتثير لديك الرغبة في أن تكون جزءاً منها.

ظهر ذلك بوضوح شديد في كيفية استقبال الإيرانيين لقائد فريق النصر السعودي، النجم الدولي، كريستيانو رونالدو. بدت رؤية محمد بن سلمان أكثر حضوراً في وجدان الإيرانيين من رؤية الخميني نفسه. بهدوء وعن طريق صناعة النموذج، يقترح محمد بن سلمان مستقبلاً أكثر إشراقاً للشبيبة العرب، في القطاعات الناشئة مثل ألعاب الفيديو والسياحة الرياضية واستكشاف الفضاء والاستثمار في التكنولوجيا والطاقة البديلة وخطوط البنية التحتية، كبديل عن اليأس الذي تنتجه صراعات الأيديولوجية.

تمتدّ قوّة هذه الرسالة الملهمة إلى ما هو أبعد من الحدود السعودية، وتستهدف جيلاً متّصلاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة.

4- مقاربة عمليّة للقضيّة الفلسطينيّة

على الرغم من كلّ الحديث عن مركزية الموضوع الفلسطيني في سياق التطبيع المرتقب بين السعودية وإسرائيل، يُلاحظ أنّ الأمير محمد تجنّب الخطاب التقليدي حول الدولة وحدود عام 1967، والقدس، وقضايا الحلّ النهائي، وحقّ العودة وغيرها من العناوين التي استنزفت كلّ فرص الفلسطينيين لبناء أيّ شيء يمكن وصفه بالنجاح. استعمل الأمير مفردة “تحسين حياة الفلسطينيين”، وهو ما يمثّل تحوّلاً في النظر إلى القضية الفلسطينية كما في النظر إليها بعلاقاتها مع القضايا الوطنية للآخرين.

حقيقة الأمر أنّ خطاب الأمير لا يشترط للتقدّم على مسار السلام مع إسرائيل شروطاً فلسطينية، أقلّه ليس بالصرامة التي يوحى بها في بعض الإعلام. مقابلته تفصل في الواقع بين ما تحتاج إليه “القضية السعودية”، سواء أكان سلاماً مع إسرائيل أم أيّ شكل آخر من أشكال التطبيع، وبين ما تصبو إليه “القضية الفلسطينية”، من دون أن يتخلّى عمّا يمليه موقع المملكة من مسؤولية تجاه الفلسطينيين.

5- النضج في التعامل مع إيران

عبّر الأمير محمد عن نهج دقيق في التعامل مع إيران. فهو على يقين من سوء الواقع الاقتصادي لخصمه الإقليمي، ومن قلق النظام السياسي جرّاء حالة الرفض التي يواجهها في الداخل، والتي كان للسعودية دور في تظهيرها للعالم.

استخدم وليّ العهد لغة مغايرة تماماً للخطاب الشائع في الأوساط السياسية العربية، إذ كان تركيزه على القضايا الاقتصادية أوّلاً مثل سلاسل التوريد وتقنيّات الاتصال

ما يُثبت ذلك هو كشفه أنّ الصين هي من عرضت دور الوساطة بين إيران والسعودية، وليست السعودية من طلبته. وما لم يقُله الأمير أنّ خامنئي نفسه، وجرّاء تعثّر وتأخّر المفاوضات مع السعودية عبر الوساطتين العراقية والعمانية، هو من طلب من الصين التوسّط مع المملكة للوصول إلى تفاهمات. وهذا ما حصل على هامش القمّة السعودية الصينية في الرياض في الأسبوع الأوّل من كانون الأول 2022.

بدلاً من استغلال نقاط الضعف التي تعاني منها إيران، اقترح وليّ العهد السعودي مساراً قائماً على المصلحة المشتركة والكرامة للجميع. في المقابلة، لم تنطوِ تعليقاته بشأن تبادل السجناء الأخير بين الولايات المتحدة وإيران و”فدية” الـ 6 مليارات دولار التي حصلت عليها إيران، على ردود عصبية أو أحكام مسبقة، بل استغلّها بكفاءة عالية، ليبني عليها تشجيعاً لإيران على أن تنظر إلى المستقبل وأن تُحسن استثمار هذه الأموال بطريقة تشجّع العالم على فعل المزيد.

ينطلق الأمير محمد من أنّ بلاده حقّقت نوعاً من التوازن مع إيران يكفي لأن تقوم هدنة بين البلدين يمكن التأسيس عليها لبناء أسس لمستقبل مشترك ومصالح اقتصادية متشابكة، يؤمل أن تؤدّي إلى تطرية النموذج السياسي الإيراني.

6- عالم السعوديّة الجديد

أظهرت المقابلة أيضاً فهم الأمير محمد للمشهد الجيوسياسي المتغيّر، الذي يتطلّب سياسة خارجية سعودية مختلفة.

كان الأمير واضحاً في عرض مروحة العلاقات الدولية للمملكة مع القوى العالمية مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة والهند وأوروبا، مؤكّداً بذلك أنّ بلاده تتحرّك في عالم “متعدّد الانحيازات”. ويعدّ هذا الفهم خروجاً عن التحالفات الثنائية في الماضي، التي ميّزت العلاقات السعودية الأميركية كأطول تحالف في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. ويشير إلى أنّ المملكة العربية السعودية تضع نفسها لاعباً متعدّد المصالح في ساحة دولية معقّدة، تعطي الرياض المزيد من فرص الحضور السياسي، وتحوّلها إلى حاجة إقليمية وعالمية للآخرين، لا عبء عليهم. ظهر ذلك جليّاً في الموقف السعودي المتوازن في الحرب الروسية الأوكرانية وفي دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى القمّة العربية في جدّة قبل أشهر قليلة، وفي إدارة العلاقة النفطية الاستراتيجية مع روسيا ضمن مجموعة “أوبك بلاس”.

7- تحوُّل الصورة

نجح الأمير محمد بن سلمان في تبديد صورة عنه، حاول خصومه تعميمها، تظهره زعيماً متعجرفاً يتّسم بالقسوة.

على العكس من ذلك، تعمّد الأمير الإقرار بجوانب القصور المتعلّقة ببلاده، معبّراً عن خجله من بعض ما يميّز السعودية اليوم على المستوى القانوني مثلاً، أو ما نتج عن أدائها في السابق من إهدار لفرص ثمينة وتراجع لا يليق بمكانتها الاقتصادية بين دول العالم.

أضفى الاعتراف بجوانب الوهن التي يراها، مصداقيةً على رسالته، كسرت صفة الجموح التي رافقت الاندفاعة السعودية منذ عام 2015، وعدّها البعض تأسيساً لشوفينية سعودية مضرّة.

تعمّد الأمير أن لا تعمي أسباب الفخر السعوديين عن أوجه القصور التي ما تزال تحتاج إلى الكثير من الجهد الجماعي على مستويَي الإدارة السعودية وشعب المملكة. هذا الاعتراف المتوازن بطموحات البلاد والعقبات التي أمامها من شأنه أن يعيد تعريف صورته القيادية، على الصعيدين المحلّي والدولي، بما يخدم مشروعه ورؤيته.

بعد المقابلة الأخيرة للأمير محمد بن سلمان ليس كما قبلها. إنّها محطة مفصليّة في صناعة صورته، كما في صناعة السردية الوطنية عن المملكة وشعبها ودورها في موقعها في العالم. ليس من المبالغة القول إنّها تشكّل انطلاقة جديدة للأمير الشابّ، تشبه إلى حدّ بعيد المناخات التي أحاطت بصورته عام 2016، العام الأفضل على مستوى سلامة وإشراق “البراند” التي يمثّلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى