عماد مرمل – الجمهورية
مع مرور عام على «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر وما تلاه من حرب إسرائيلية غير مسبوقة بهمجيّتها وفظاعتها، يبدو أنّ الكيان لا يزال عالقاً في المربّع الأول، ولم يتمكن بعد من استعادة الأمن المفقود.
بعد سنة من المواجهة، تستمر الصواريخ في التساقط على تل أبيب وحيفا وغيرهما من المدن والمستعمرات في الأراضي المحتلة، لتبرهن على أنّ الحرب الإسرائيلية لم تحقق أهدافها حتى الآن، وفي طليعتها الهدف الأبسط لكنّه الأكثر تعقيداً، وهو منح الإسرائيليِّين الشعور بالأمان الذي فقدوه مع اقتحام حركة «حماس» مستوطنات غلاف غزة وتوجيه ضربة مهينة إلى جيش الاحتلال وأجهزته الاستخبارية، قبل أن تتسع الجبهات لاحقاً ويتمدّد الإحساس بالخطر والقلق إلى شمال فلسطين المحتلة الذي نزح منه عشرات آلاف المستوطنين ولم يتمكّنوا من العودة إليه بعد.
لا يمكن الإنكار بالتأكيد أنّ بنيامين نتنياهو استطاع خلال سنة من الحرب على مختلف الجبهات أن يحقق إنجازات مرحلية، لعلّ أهمها اغتيال الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله ورئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية، بالإضافة إلى اغتيال قيادات ميدانية والتوغّل في معظم أنحاء قطاع غزة.
إلّا أنّ مأزق نتنياهو المستمر يكمن في أنّه لم يستطع حتى الآن «تسييل» إنجازاته العملانية إلى تحوّلات استراتيجية من شأنها تحقيق غايات الحرب وإخضاع الطرف الآخر، الذي لا يكتفي بالدفاع وحسب، بل لا يزال يبادر إلى الهجوم في عمق الكيان، كما حصل مع قصف «كتائب القسام» لمدينة تل أبيب في الذكرى الأولى لـ7 أكتوبر، وإطلاق «حزب الله» المتكرّر للصواريخ على قلب حيفا ومحيطها امتداداً إلى تل أبيب الكبرى.
وبذلك، يكون جيش الاحتلال الإسرائيلي قد عجز عقب سنة من العدوان عن تحقيق الحدّ الأدنى من «طموحاته» وهو وقف إطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلي، سواء من قطاع غزة أو من جنوب لبنان. أمّا الحدّ الأقصى المتمثل في القضاء على «حماس» واجتثاث «حزب الله»، فيبدو بعيد المنال وأقرب إلى المحال على الرغم من الضربات التي تعرّض لها التنظيمان.
ولعلّه يمكن الاستنتاج مع انقضاء سنة كاملة على الحرب، أنّ كلاً من العدو والمقاومة فاجأ الآخر بما لم يكن يتحسّب له.
بالنسبة إلى الإسرائيلي ففوجئ بدايةً بضربة 7 أكتوبر المباغتة، ثم بقدرة «حماس» على الصمود والمواجهة منذ ذلك الحين، وتمكّنها من إخفاء عدد كبير من الأسرى، ونجاحها في بناء غزة أخرى تحت الأرض وليس مجرّد أنفاق كلاسيكية، ورفضها القبول بأي اتفاق لوقف إطلاق النار، وانخراط جبهات الإسناد في دعمها من لبنان إلى اليمن وما بينهما. كذلك، لم يتوقع الاحتلال على الأرجح أن يظل «حزب الله» متماسكاً، وأن يتمكن من إعادة ترميم صفوفه بعد تفجيرات «البيجر» وأجهزة الاتصال واغتيال السيّد حسن نصرالله وعدد من القادة العسكريِّين.
أمّا بالنسبة إلى المقاومة، فيمكن التقدير أنّها بوغتت بحجم التفوّق الاستخباري والتقني للعدو، والذي سمح له بتوجيه ضربات قاسية لها. كذلك، فوجئت في غزة ولبنان باستعداد الكيان لخوض حرب طويلة تخطّت مدّتها الـ12 شهراً حتى الآن، بينما كانت عقيدته القتالية سابقاً ترتكز على الحروب الخاطفة.
ثم فوجئت بأنّ نظرته إلى الكلفة تغيّرت، فهو بات أكثر قدرة على تحمّل الخسائر البشرية والمادية في صفوفه، وأصبح أقل تحسُّساً حيال مسألة أسرى إسرائيليِّين حتى ولو كلّفه ذلك مقتل بعضهم في مقابل عدم تقديم تنازلات، فيما كان من قبل يُصاب بالاضطراب والاهتزاز إزاء أي خسارة يتكبّدها مهما كانت محدودة، وكم من مرّة دفع أثماناً كبيرة من أجل إطلاق سراح أسير أو حتى رفات أسير، وهو الأمر الذي يفعل عكسه هذه المرّة، مع أنّ عدد المحتجزين في غزة كبير.
وبهذا المعنى، فإنّ مقاربة العدو لمفهوم الحرب تبّدلت، من حيث قياس المدة، والثمن المدفوع، وتعريف المخاطر، والاستعداد للتحمّل. والسبب الأساس في هذا التحوّل الواضح على مستوى نمطَي التفكير والسلوك يعود إلى اقتناعه بأنّه يتعرّض منذ «طوفان الأقصى» إلى تهديد وجودي يستدعي تغيبراً في معايير المواجهة.
ولكن فات الكيان أنّ قوى المقاومة تتصرّف أيضاً على قاعدة أنّها تواجه كذلك خطراً وجودياً بفعل طبيعة عدوانه الذي نسف كل المحرّمات والخطوط الحمر، بالتالي لم يترك لها من خيار سوى الاستشراس في القتال.
وإذا كان كل من الطرفَين يخوض المواجهة بدافع حماية وجوده، إلّا أنّ هناك فارقاً جوهرياً بينهما وهو أنّ حركات المقاومة تعتبر أنّها ابنة الأرض بينما الكيان الإسرائيلي طارئ عليها. ولعلّ هذا الفارق كفيل بتحديد هوية المنتصر في نهاية المطاف، بمعزل عمّا يمكن أن تؤول إليه نتيجة هذه الجولة.