تتصاعد وتيرة العدوان الإسرائيلي على لبنان يوما بعد يوم، محولا سكان الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية والبقاع من مواطنين آمنين إلى مهجرين في المناطق اللبنانية التي تعد آمنة إلى حين، من هذا العدوان الهمجي. وقد تهجر أكثر من مليون شخص، أي ما يعادل ربع سكان لبنان، من منازلهم في المناطق المتضررة، بحثًا عن بيئة آمنة هربًا من جحيم الحرب التدميرية والمخاطر التي تؤثر في حياتهم اليومية.
هذا النزوح أدى إلى ضغط كبير على المناطق التي استقبلت المهجرين، مما أثر في الاقتصاد اللبناني بشكل مباشر، فالبلاد اليوم تشهد ضغطًا غير مسبوق مع تزايد أعداد النازحين، ما يثقل كاهل المجتمعات المضيفة سواء في المنازل أو مراكز الإيواء، وذلك في ظل انتشار الفقر، حيث يرزح نحو 70% من اللبنانيين تحت خط الفقر، بحسب تقارير البنك الدولي.
المدير الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، عثمان البلبيسي، حذر من أن «نزوح مئات الآلاف من الأشخاص في لبنان كارثي»، مشيرًا إلى أن الدعم الدولي «لا يتناسب مع الاحتياجات”.
لكن هل يمكن لهذا التهجير الكبير أن يكون له تأثير إيجابي بالنشاط التجاري في المجتمعات المضيفة؟ ليس من باب التفاؤل أو التشاؤم أو بث آمال فارغة وسط هذه الحرب الهمجية، بل من واقع نعيشه. فقد شهدت بعض المهن والقطاعات نشاطًا غير مسبوق، مستفيدة من الطلب المتزايد على السلع والخدمات في تلك المناطق التي استقبلت النازحين.
وتشمل هذه القطاعات تجارة المواد الغذائية، وتأجير الشقق المفروشة وغير المفروشة، وقطاع المقاهي، إلى جانب تزايد الطلب على فرش ووسائد النوم وملحقاتها، مع سعي المهجرين المتفائلين بعودة سريعة إلى مناطقهم، إلى تأمين حاجاتهم الأساسية وسط التحديات التي تواجههم. لكن المهجرين يملكون قدرة شرائية محدودة، ويركزون على قائمة الأولويات مثل الغذاء والمياه النظيفة والرعاية الطبية، وهو ما يعكسه «مثلث ماسلو». في المقابل، هناك قطاعات أخرى، مثل الإلكترونيات والسيارات، التي تعد من الكماليات وتأثرت بشدة، إذ انخفضت نسبة البيع إلى مستويات متدنية جدًا.
وفي جولة أجرتها صحيفة «الديار» على بعض المحال في مناطق التهجير، أكد لنا أحد الموظفين في محل لبيع المستلزمات المنزلية أن «السوق مزدهر»، في إشارة إلى الطلب الكثيف على المفروشات، وبخاصة فرش النوم. وقال: «قبلاً لم يكن هناك طلب على هذه السلع، أما اليوم ومع بداية الحرب على لبنان ونزوح الأعداد الكبيرة من سكان الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، تجارة فرش الإسفنج لم تتوقف وزاد الطلب عليها”.
وشهدت المناطق التي استقبلت المهجرين زيادة في الطلب على السلع والخدمات الأساسية. لكن تجار الحروب والأزمات لم يتوانوا عن استغلال الفرصة، رافعين الأسعار لزيادة أرباحهم على حساب معاناة الآخرين. في المقابل، نجد البعض ممن يشعرون بالأزمة التي يعيشها المهجرون الهاربون من حرب النار ليجدوا أنفسهم بمواجهة حرب الأسعار الملتهبة. مصدر مطلع على أعمال لجنة الطوارئ الحكومية أكد أن «الأجهزة الأمنية كافة تعمل على منع عمليات الاحتكار ومراقبة الأسعار وضبط الحدود”.
فالأسعار في هذه المناطق شهدت ارتفاعا جنونيا، حيث أكد أحد المستهلكين، وهو من سكان منطقة أنطلياس، أن «أسعار السلع ارتفعت بين 20 و30 في المئة، ونمط حياتنا تغير. فالراتب لا يكفي لسد حاجاتنا اليومية، وتكاليف المعيشة أصبحت فوق طاقتنا». وشهد الأمن الغذائي تضخمًا هائلًا في الأسعار وصل إلى مستويات قياسية. ومع أن التضخم قد تراجع مؤخراً، إلا أن الأسعار ما زالت مرتفعة، مما يرفع نسبة الفقر في البلاد لتصل إلى حوالى 44% من السكان.
كما شهدت إيجارات الشقق السكنية ارتفاعًا كبيرًا تراوح بين ضعفين إلى خمسة أضعاف. وهذا زاد من الأعباء المالية على المهجرين، حيث أدت الحرب إلى توقف أعمال عدد كبير من اللبنانيين، سواء النازحين أو غير النازحين. ومن كان قادرًا على تأمين مصروف يومه أصبح عاجزًا اليوم. ولم يؤثر النزوح في الاقتصاد المحلي فقط، بل أدى أيضًا إلى تعطل القوى العاملة، حيث أجبر العديد من الأشخاص على ترك وظائفهم أو أعمالهم، مما زاد من معدلات البطالة، التي كانت مرتفعة أصلًا قبل العدوان. علي، أحد النازحين من الضاحية الجنوبية، روى لنا معاناته في إيجاد شقة تتناسب مع وضعه المالي الجديد. فهو اليوم فقد عمله ويعمل على ترتيب حياته بما يتناسب مع ما ادخره من أموال لحين عودته إلى منزله.
منظمة العمل الدولية أعلنت عن توسيع أنشطة برنامج التوظيف المكثف والبنى التحتية في لبنان (EIIP)، بتمويل من ألمانيا والمنظمة، استجابة للأزمة المتفاقمة في البلاد. يهدف البرنامج إلى تحسين الظروف المعيشية في الملاجئ الجماعية التي تستضيف المهجرين كالمرافق الأساسية مثل المطابخ والصرف الصحي، مع توفير «فرص عمل مقابل النقد» في إعادة تأهيل مبانٍ مستخدمة كمراكز للإيواء.
المحلل المالي والاقتصادي الدكتور بلال علامة أكد أن «الحروب غالبًا ما تسهم في ازدهار الأنشطة غير الرسمية، فنلاحظ انتشارًا كبيرًا للبائعين في الطرقات ولأشخاص يبيعون بضائع بطرق غير خاضعة للتنظيم أو الضوابط القانونية. وهذه الأنشطة لا تخضع عادة للضرائب أو التصاريح الرسمية، مما يجعلها غير مفيدة للاقتصاد الرسمي”.
هذا العام يُعد من أصعب الأعوام على اللبنانيين، فالاقتصاد شهد نموًا مؤقتًا على حساب معاناة الناس. وهذا النشاط الاقتصادي المستجد جراء أزمة النزوح لا يعد ازدهارًا للقطاعات. فقطاع الألبسة والمفروشات، على سبيل المثال، بقي على حاله من دون تغيير، وهو يعاني أصلًا من ركود كبير. واليوم، نظرًا إلى الظروف السائدة والضائقة المالية على الجميع، بات الوضع سيئًا جدًا. فالنازحون أقل اهتمامًا بمتابعة الموضة، بحسب ما أكده أصحاب المحال.
أما نشاط القطاع السياحي، فتراجع إلى أدنى مستوى له. وعلى الرغم من ارتفاع نسبة إشغال الفنادق نسبيًا بسبب لجوء النازحين الميسورين إليها، إلا أن فترة الإقامة لم تدم طويلًا. البعض استأجر شققًا سكنية، بينما قرر آخرون السفر إلى الخارج، بحسب ما أكده رئيس اتحاد النقابات السياحية ورئيس نقابة الفنادق في لبنان، بيار الأشقر، مشيرًا إلى أن القطاع السياحي بأكمله ليس بخير، ووضعه صعب جدًا.
إن هذه الحرب أكبر من قدرة لبنان على تحمل تبعاتها، خاصة في ظل انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق يشهده لبنان منذ عام 2019. وإذا طال أمد الحرب، فسيحدث الانهيار الاقتصادي والمالي التام، وسنكون أمام تداعيات اجتماعية وسياسية خطرة. هذا ما أكده معهد التمويل الدولي، الذي أعلن أن الحرب الطويلة والممتدة ستدمر اقتصاد لبنان المنهك بالفعل.
أضف إلى ذلك الانقسام السياسي وعدم القدرة على تنفيذ استحقاقات سياسية كبيرة، في مقدمتها انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تعيد الانتظام العام في جميع الإدارات والمؤسسات العامة، وتنفيذ إصلاحات تشريعية واقتصادية ومالية ضرورية للتعافي الاقتصادي، لإخراج اللبنانيين من دوامة التدهور المستمر في أوضاعهم المعيشية والاجتماعية والمالية.