استنزاف الرأسمال البشري في لبنان يُحوّله الى مُجتمع هرم

يعاني لبنان منذ عقود من أزمات متتالية أغرقته في قاع البؤس، وفقدان الأمل بوطن مزدهر مستقل، وكأن هذا البلد محكوم بالأزمات. فمن أزمة مالية واقتصادية إلى أزمة سياسية واجتماعية، كان آخرها في هذا العصر عام 2019، حيث عاش اللبنانيون منذ ذلك التاريخ ذروة الأزمات، تمثلت في انهيار المداخيل، والبطالة، وفقدان الودائع، وندرة المستلزمات الأساسية للحياة، إضافة إلى تدهور الخدمات العامة، مما جعل الكثيرون يفكرون بالهجرة ، خصوصا الشباب وأصحاب الكفاءات، بحثا عن فرص عمل تنقذ مستقبلهم وتحقق طموحاتهم.

الهجرة ليست بالأمر الجديد على لبنان، ففي زمن الاحتلال العثماني والمجاعة عام 1914، سجلت حملات متتالية من الهجرة الفردية والتهجيرالجماعي، وفي عام 1975 خلال الحرب المشؤومة، شهد لبنان موجات من التهجير المناطقي، دفعت أعداداً كبيرة من اللبنانيين إلى ترك بلدهم، والتوجه إلى المغترب ككندا وأميركا والبرازيل والمكسيك وأوستراليا، ودول أخرى بعيدة نسبياً، أما أوروبا فكانت وجهة الميسورين، والتي تبقى الهجرة إليها مؤقتة، نظراً إلى قرب المسافات وإمكان العودة بشكل متكرر، ولو للزيارات العائلية.

تجدر الإشارة، إلى أن عدد المهاجرين في عام 2023 ارتفع إلى 180 ألف مهاجر، مقابل 59 ألف في العام 2022 بحسب “الدولية للمعلومات”، لتكون هذه الهجرة الموجة الخامسة من سلسلة الهجرات التي عاشها اللبنانيون في تاريخهم والأعلى على الإطلاق.

 

تحولت الهجرة حلماً يراود معظم العائلات  اللبنانية، وخصوصا الشباب والمتعلمين تحديداً ، فمن الانهيار الكبيرعام 2019 إلى أنفجار مرفأ بيروت عام 2020 إلى الحرب الأخيرة على لبنان من قبل العدو الإسرائيلي، باتت الهجرة قرارا لا رجعة فيه رغم صعوبته، فهو الحل الأمثل الغير معلن للكثيرين، حيث تبين الأرقام الجديدة رغبة 38% من اللبنانيين في الهجرة، مما يجعلنا نطلق جرس الإنذار من تحول مجتمعنا إلى مجتمع هرم، ما يشكل خطرا على مستقبل البلاد.

أعداد اللبنانيين المهاجرين والمغادرين ترتفع سنوياً، سعياً لتحسين ظروف حياتهم الصعبة، أو للحصول على فرصة عمل أصبحت مستحيلة في وطنهم، في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية وتراجع القدرة الشرائية، نتيجة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، ونتيجة ارتفاع نسبة البطالة، التي تعد الأعلى في المنطقة، حيث سجلت بحسب تقرير صادرعن منظمة العمل الدولية 47.8%  ، ما شكل دافعا أساسياً لهجرة الشباب اللبناني، للبحث عن فرص عمل ومستقبل أفضل.

شاب بعمر الـ 25 سنة متخرج من الجامعة الأميريكية في بيروت قسم إدارة الأعمال، أكد أنه أتخذ قرار الهجرة بعد تفكير طويل، مضيفا “فقدت الأمل بإيجاد فرصة عمل جيدة تضمن مستقبلي وحياة كريمة في بلادي التي أحب، فلبنان بالنسبة لي هو بيتي واهلي وخزان ذكرياتي ،لكنني أريد حياة كريمة لي ولأهلي”.

أما رشا وهي مدرّسة في إحدى المدارس الثانوية، تؤكد رغبتها بالهجرة وتغيير مهنتها لاي عمل، يضمن لها ولأسرتها حياة هادئة. فخوفها من الأوضاع الأمنية السائدة في البلاد، لا يجعلها مرتاحة لمستقبل أولادها، فهي لا ترغب أن يعيشوا ما عاشته من خوف خلال الحرب أو ما بعد الحرب، “بسبب المناكفات والصراعات السياسية وفساد السلطة السياسية” ، وتضيف “إن خرجت من هذا الجحيم لن أعود أبداً إلى وطني للاستقرار فيه، فهو غير مستقر ولن يستقر بسبب زعمائنا الكبار”.

تذاكر حفلات موسيقية

 

هادي يقول : “كنت أرفض الهجرة على أمل تحسن الظروف، لكن انفجار مرفأ بيروت كان كالمنبه الذي أيقظني من غيبوبتي الطويلة لاتخاذ أصعب قرار في حياتي، حيث أدركت أن بقائي في  لبنان مخاطرة بحياتي وحياة اسرتي، وخصوصا مع هذه الحرب التدميرية الممنهجة من قبل العدو الإسرائيلي”، مضيفا ” لم يعد يحتمل على كل الأصعدة اقتصاديا وامنيا وسياسيا”، آملا أن يستيقظ السياسيون والمسؤولون من غيبوبتهم، لينقذوا البلاد قبل أن تحل الكارثة الكبرى فأصحاب القرار في لبنان “هم العلة”.

 وهنا تشدد مديرة المركز اللبناني لدراسات الهجرة والانتشار في جامعة سيدة اللويزة الدكتورة غيتا حوراني على أنه “إذا لم يتم وضع سياسة جيدة لإعادة المغتربين، وتنفذ إصلاحات شاملة، ويوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، لن نشهد عودة المغتربين ولا عودة الاستثمارات إلى هذا البلد”.

لبنان يخسر منذ زمن رأسماله البشري، وازداد الأمر سوءا منذ سنة 2019، فبالإضافة إلى هجرة الأدمغة، يواجه أيضا هجرة الكفاءات، حيث يفتقد إلى الميكانيكيين والكهربائيين وغيرهم من أصحاب المهن، كما يخسر الخريجين الجدد الذين لا يجدون فرصة عمل، فيبحثون عنها في الخارج، وهذا ما يؤثر على ديموغرافية البلد كونهم من العنصر الشبابي، بحسب ما أكده الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين.

من جهة أخرى، يرى شمس الدين أن الهجرة شكلت منذ تأسيس دولة لبنان رافعة للاقتصاد اللبناني وشريانه الحيوي، الذي قدر تجاوز تحويلات المغتربين ما قيمته 7 مليارات دولار (وفق إحصاءات البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولية لعام 2021) لتسجل نحو 17 مليار دولار إذا تم احتساب التحويلات الرسمية والنقدية، وتلك عبر القنوات غير الرسمية.

الهجرة إذن سلاح ذو حدين، ورغم تداعياتها الإيجابية فإنها قنبلة موقوته تهدد ديموغرافيا لبنان وتركيبته السكانية، فهادي ورشا وشادي هم حال كل الشباب اللبناني الطامح إلى الهجرة إن راغبا او مجبورا، فهول المآسي التي يعاني منها اللبنانيون، مع كل مطب أمني أو سياسي أو اقتصادي أوصلهم إلى اليأس وعدم الإيمان بوطنهم المسلوب من قبل سلطة فاسدة تتحكم بمفاصل البلاد، غير مكترثة بهول الكارثة بسبب نزيف الهجرة الذي إن استمر يحول لبنان الى مجتمع هرِم في السنوات المقبلة.

فبحسب إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة، يتبين انه بين عام 2020 و2050 قد يرتفع عدد الأشخاص الذين يبلغ عمرهم 60 عاماً وما فوق إلى أكثر من الضعف ليسجلوا نحو 27% من مجموع السكان. في المقابل من المتوقع أن ينخفض عدد الاشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً بنحو الثلث، نتيجة تراجع معدلات الزواج وارتفاع معدلات الطلاق وبالتالي انخفاض معدلات الولادات.

ربى أبو فاضل – الديار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى