لم تكتمل الفرحةُ بخروج سورية من «السجن الكبير» مع الاستمرار في تعذُّر تفكيك شبكة المخابئ السرية والمعتقلات تحت الأرض وربما المَقابر الجَماعية التي حَفَرَها عميقاً «حُكْمُ الأسديْن» (حافظ وبشار) على مدى أكثر من نصف القرن طُرد خلاله الياسمين الشامي وحَل القمعُ والدمُ والاستبدادُ والقهر.
… من أصل ملفاتٍ موثّقة لـ 622 لبنانياً اعتُقلوا أو خُطفوا أو اختفوا في «سورية الأسد»، لم يَعُدْ منهم إلى لبنان بعدما فرّ السَجّان إلى موسكو وتَهاوى نظامُه، إلا 9 كُتبت لهم الحياة من جديد، في وقت يستمرّ مصير الآخَرين معلَّقاً على «عواجل» وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي عن عمليات «التنقيب» في السجون ومقار مخابرات الحُكْمِ البائد.
أيامٌ صعبةٌ وقاسيةٌ وموجعةٌ أَمْضاها أهالي «المفقودين» في سورية منذ لحظةِ الإعلان عن فتْح الزنازين… انتظارٌ كان على حد السيف بين بصيصِ أملٍ يطلّ من جديد والخشية من النهايات المأسوية… عائلاتٌ كثيرةٌ زَحَفَتْ إلى «سورية الجديدة» وأقامت ليلَ نهارٍ على بواباتِ سجن صيدنايا في انتظارِ خَبَرٍ ما يُثْلِجُ القلوبَ المُحْتَرِقَة.
فمنذ اللحظة الأولى التي انتشرتْ وكالنار في الهشيم صورةُ رجل ستيني ومتعَب خرج للتو من سجن حماه، دبّ الأمل في نفوس مئات العائلات التي استوطَنَها اليأسُ من إمكان اكتشاف مصير أبنائها على مرّ أعوام طويلة… ورغم الكشف لاحقاً أن علي حسين العلي الذي أفيد بدايةً بأنه لبناني من عكار وأَمْضى 39 عاماً في غياهب سجن حماه، هو واقعياً من المعتقَلين السوريين، فإن هذا الأمرَ لم يُحْبِط «آمال أهالي المَخْفيين قسراً من أبناء بلاد الأرز في سورية والذين اعتَبروا عودة 9 لبنانيين آخَرين كالفجر الذي يشقّ عتمةً كالسواد ويعيد الحياة إلى قلوبٍ أنهكها الانتظار.
قطرةُ ضوءٍ
وكأن «لابد لليل أن ينجلي»… فماذا لو خَرَجَ المعتقَلون اللبنانيون المنسيون إلى الحرية؟ صار الأملُ مسموحاً مع بدء تداول أسماء لمعتقلين لبنانيين تمّ التعرّف إليهم بعد تحريرهم من سجن صيدنايا واخوانه من أقبية الموت، ومازال التدقيق في ما إذا كانوا من لوائح المَخفيين قسراً.
وانشدّتْ العيونُ المسكونة بالألم والأمل بالدرجة الأولى إلى سجن صيدنايا و«طابقه الأحمر». فهذا «المسلخ» بكل جبروته وتاريخه الدموي فَتَحَ مع أبوابه الصدئة نافذةَ الذكريات وأَخْرَجَ من عُلبها صوراً لشباب جَعَلَها الزمنُ باهتةً لكنها عادتْ لتحتلّ بحنينها الأسود والأبيض واجهةَ مواقع التواصل الاجتماعي التي انهال على صفحاتها سيلٌ من أسماء لم تَعُدْ حاضرةً إلا في وجدان الأهل، مع مناشداتٍ لمَن يَعرف عنهم شيئاً بالتواصل على أرقام هواتف الأقربين.
ومع كل صورةٍ تاريخٌ وموقعٌ وقصةُ خطف… حنا مارون الحاج، جندي في الجيش اللبناني خُطف عام 1985 بين الدورة وجبيل، متري مخايل سعادة اختفى في 13 أكتوبر 1990، كرم يوسف مرقص خُطف العام 1984، خليل أمين أبو زكي مفقود في سورية منذ 1978، جمال مجيد قانصو اختفى في السجون السورية منذ 1982… وتَطول وتطول لائحة الأسماء المَخفية ووراء كل اسم جرحٌ نازف…هل يعودون؟ هل ينكشف مصيرهم أخيراً؟
وقبل أن يُعلن عن أن عمليات البحث والحفر لم تؤدِّ إلى اكتشاف أي مخابئ، من دون أن يَجري «الاستسلام» حيال استمرار «التنقيب» عنها ولو عبر سجّانين سابقين، قيل الكثير عن السجن الأحمر الذي لم تُفتح كل زنازينه بعد، المحصّن تحت الأرض، والمكبّل بأبواب من الرصاص وأقفال مرمَّزة حاول منشقّون وسجناء سابقون فكّ طلاسم التحكّم بها… فربما حين يُفْرِجُ السجن السيئ الذكر عما تختزنه أمعاؤه النتنة، قد تَخرج الصورُ من العتمة وتتحوّل لحماً ودماً من جديد.
مسلخٌ وأكثر
صيدنايا، ربما ينافس أكثر السجون وحشيةً في التاريخ… مسلخٌ وأكثر. غرفةُ ملحٍ لدفن الجثث، مكسر عظام، «مكبس جثث»، أساليب تعذيب فوق الخيال، غالبية الخارجين منه أحياء «شبه أموات» من شدّة التشوّهات. فاقدو الذاكرة مصابون بالهستيريا كأنهم خارج الزمان والمكان. فمَن نجا منهم حوّلتهم الوحوشُ البشريةُ في السجن مجرّد أشباه ناس وكتلةَ خوفٍ ووجعٍ حَفَرَ حتى أعمق أعماق النفس إلى أن «تجمّدت» المشاعر أمام مستوياتٍ مرعبة، لم يصل إليها خيالٌ ولا أفلام، من الشرّ المطلق واللا إنسانية المقيتة.
ومثل صيدنايا، سجون سرية لا سجلّات لها يتحدّث عنها عارفون سوريون: سجن في كفرسوسة تحت مبنى إدارة أمن الدولة في داخله آلاف المعتقلين؛ سجن في مبنى الأيتام المواجه لمبنى أمن الدولة للنساء فقط، سجن باب مصلى قريب من الأمن الجنائي وهو كبير جداً مخصص لمعتقلين سياسيين؛ سجن في السومرية داخل مكتب أمن الفرقة الرابعة؛ سجن في الصبورة داخل اللواء 41، وسجن عند مدخل مطار المزة العسكري… وكلها مع سجون عدرا وتدمر وفرع فلسطين و… و… و… أجزاء متداخلة من منظومة الظلم والقهر والتنكيل الذي كان «يختفي» السجناء في أقبيتها السود المظلمة.
معتقَلون لبنانيون فُتحت أمامهم طاقة القدَر، حُرِّروا من سجونهم مع رفاق لهم سوريون، عادوا إلى الحرية إلى عيون اشتاقت رؤية وجوههم وإن صارت مجعّدة ذاوية، وأحضان لم تكفّ لعقود عن غمر أطيافهم بعدما كانوا تحولوا إلى ما يشبه «الذاكرة».
المحررون الـ 9
… محمد عمر الكيلاني، أحمد ياسر عبيد، محمد علي محمود عباس، حسن محمد علي حيدر أحمد، حسين زهير حيدر أحمد، إدريس محمد فارس، حامد متنبي شوشة، محمد ياسر حمادة، سهيل جوزف حموي، محرَّرون لا يتجاوز عددهم التسعة في حين أن مصيرَ مئات السجناء مازال مجهولاً وسط حال انعدام التوازن السائدة في سورية، واستمرار البحث في دهاليز السجون وغيابها عن أثَرٍ لهذا أو ذاك من الأسماء الموثقة ملفاتهم.
الناشطة والإعلامية غادة عيد التي تتابع الملف عن كثب تقول لـ«الراي»، إنه رغم عدم وجود معلومات أكيدة بين أيدينا حول المفقودين إلا أن ثمة معطيات وإشارات كثيرة تنبئ بوجود هؤلاء في السجون السورية. وحدها الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً التي تم إنشاؤها عام 2018 والتي تضم قضاة تملك ملفات ووثائق حول هؤلاء المَخْفيين تم جَمْعُها من الأهالي والتحقيقات، وهي اليوم مطالَبة بإبراز ما تملكه من معطيات أمام الرأي العام والكشف عما قامت به من اتصالات وإلى أين وصلت (…)».
ولفتت إلى أن «القضية شديدة التعقيد وقد زادتْها صعوبةً مَشاهدُ التعذيب الذي كان المساجين يتعرّضون له وما تركه فيهم من آثار مدمّرة. فالاعتقال المستمرّ لعقود جعل بعض المساجين يصابون بحالات فقدان ذاكرة أو حالات هستيريا وجنون. بعضهم نسوا أسماءهم وما عادوا يعرفون أنفسهم وهويتهم… هؤلاء إذا خرجوا سيكون وضعهم أصعب، ولذا لابد من التنسيق مع الجانب السوري لمتابعة وتَقَصي حالات المشرّدين الذين أُطلق سراحهم ومطالبة الفصائل بتعيين لجنة تقصي حقائق حول اللبنانيين المسجونين ووضْع أشخاص قرب السجون ليهتموا بالتائهين ويرعونهم ويساعدوا في التعرف إلى هوياتهم عبر أهلهم أو أي شخص يعرف شيئاً عنهم».
الانتظار الطويل
عقود من الانتظار المرير كان يلمع وسط ظلمته بين الحين والآخَر شعاعُ ضوء ضئيلٍ مع خروج أحد المعتقلين من السجون السورية حين كان يروي عن رفاق له في الزنازين كان يَسمع أصواتَهم ويَعرف أسماءهم.
علي أبودهن الذي خَرَجَ عام 2000 من المعتقل بعد 13 عاماً أمضاها بين سجن تدمر وسجن صيدنايا، حكى عن رفاق له لبنانيين مازالوا في المعتقلات السورية. وروى في كتابه «العائد من الجحيم» تجربته في السجون ووثّق ما عاناه هو ورفاقه فيها. وبعدما أسس جمعية المعتقلين في السجون السورية ظل يؤكد أنه مازال هناك أسرى ومعتقلون في سجون صيدنايا وعدرا وغيرهما والدليل على ذلك وصول جثامين معتقلين بين الفينة والأخرى، منهم قيس منذر من ضهر الأحمر، الذي أعيد ميتاً إلى أهله عام 2016، ويعقوب شمعون الذي أطلق سراحه في 2012، وعمر خالد وناجي طيارة اللذين أطلقا بعدما ظل مصيرهما مجهولاً لأعوام.
عقود من الظلم والتعسف وسط تعتيم تام من النظام السوري الذي ظلّ يرفض الكشف عن أعداد أو أسماء المعتقلين، ما جعل توثيق وجودهم صعباً على المنظمات الإنسانية والحقوقية المعنية… اعتقالاتٌ سياسية لمعارضين للوجود السوري أو لنظام الأسد، لعسكريين قاوموا هذا الوجود، ولنشطاء حرّكوا الشارع أو اتُّهموا زوراً بالتعامل مع العدو الإسرائيلي، وكذلك اعتقالات عشوائية لمدنيين أبرياء ذنبُهم الوحيد وجودُهم في المكان الخطأ.
الأرقام الموثّقة تشير إلى أن عدد المعتقلين اللبنانيين يقارب 622، يشكل السنّة النسبة الأكبر منهم، يليهم المسيحيون، ثم الدروز، ويرتبط هذا التوزيع بالأحداث السياسية والأمنية التي دَفعت النظام السوري لاستهداف أفراد أو مجموعات معينة. فأحداث طرابلس في ثمانينيات القرن الماضي ضد الوجود السوري حَمَلَتْ بعدها موجةَ اعتقالاتٍ واسعة في المدينة، كما في قرى عكارية تحمل التوجه نفسه، ومُناهَضَةُ القوى المسيحية للوجود السوري جعلتْ أعداد المعتقَلين من أبناء الطوائف المسيحية ترتفع، أما الدروز فشهدت علاقتهم بسورية فتراتٍ من التأزم تَسَبَّبَتْ بإدخال الكثيرين منهم الى المعتقلات.
لم يستسلموا
وحدهم الأهالي لم يستسلموا. ومن حزنهم وإصرارهم وُلدت لجنة أهالي المفقودين والمخفيين قسراً عام 1982 لتكون الصوتَ الصارخ في برية الظلم والانكار. وثّقت الأسماءَ والتواريخ والصور وظروف الاختفاء، وكانت خيمة أهالي المفقودين في وسط بيروت رمزاً للتشبث بالأمل والسعي وراء العدالة المفقودة. أمهاتٌ يبست المآقي في وجوههنّ ولم تجفّ دموعهنّ… نايفة النجار انتحرت حزناً على ابنها الوحيد علي الذي خُطف وهو في سن الثالثة عشرة، وأم علي تبكي اليوم 4 أبناء لها فُقدوا في الحرب ولم تعرف مصيرهم…
في المؤتمر الأخير الذي عقدتْه اللجنة في السابع من ديسمبر، صرخت إحدى النساء «كيف بَدّو خيي يعرف يرجع عالبيت ونحنا نقلنا من عين الرمانة وصرنا بالكورة»؟
وصرخت أمٌّ «دخلِك طمنيني إذا اسم ابني مبيّن مع يلي أفرجوا عنن»؟
أسئلةٌ حارقةٌ تختصر معاناة مجبولة بأملٍ مستجِدّ لأهالي حاولوا القفز فوق جروحهم العميقة وأعوام من القهر والانتظار ليتشبثوا اليوم بقشة أَمَلٍ نَمَتْ مع فتْح أبواب الزنازين السورية.
مسيرةٌ طويلة لأكثر من أربعة عقود مَشَتْها اللجنة. غازي عاد المناضل الصلب على كرسيه المدولَب، غادر هذه الدنيا قبل أن تتاح له رؤية أبواب السجون تُفتح. وداد حلواني رئيسة اللجنة التي بدأت رحلةَ نضالها بعد اختفاء زوجها عدنان عام 1982، ساهمت في إبقاء القضية في دائرة الضوء الإعلامي والسياسي وإدخالها إلى أجندة المنظمات الحقوقية الدولية.
واللجنة المتسلّحة بدموع الأهالي دفعت البرلمان اللبناني لإقرار قانون إنشاء الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً عام 2018.
مآس كثيرة اجتمعتْ تحت خيمةٍ بقيتْ صامدةَ لأربعة عقود سود تواكب ظلماً حقبةً موجعةً من الظلم والقهر في انتظارِ خَبَرٍ ما من خلف أبواب موصدة لسجونٍ يصح عنها القول«الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود».