
يظن الكثيرون في لبنان أن النجاح يعني أن تكون أنت وحدك مركز القرار، وأن تحمل على كتفيك عبء المؤسسة والعائلة وهموم الوطن في آنٍ واحد . لكنّي تعلّمت من التجربة أن القيادة التي تقوم على جهد شخص محدد تشبه البناء الجميل على أرض رخوة يقف لبعض الوقت ثم ينهار . القوة الحقيقية ليست في أن تصرخ في وجه العاصفة، بل في أن تعرف متى تتوقف لحظة، تلتقط أنفاسك، وتسمح لفريقك بأن يكون شريكًا في قراراتك لا ديكورًا الى جانبك . المراجعة هنا ليست تراجعًا ، بل ارتقاء من قيادة مبنية على الاندفاع، إلى قيادة قائمة على التخطيط، التفويض، وصناعة استمرارية أقوى من حضور الفرد نفسه. فحين نراجع القرار قبل إطلاقه، ونُشرك الآخرين في الطريق، ننتقل من إدارة أزمات يومية… إلى صناعة مستقبل طويل الامد.
كم من رجال حملوا قضية يؤمنون بها بإخلاص، فانطلقوا يدافعون عنها كأنهم وُلدوا لإصلاح الكون وحدهم! أعرف هذا الشعور جيّدًا: شغف يتحوّل مع الوقت إلى استنزاف، وغيرة طيبة تصبح عبئًا نفسيًا، واندفاع جميل ينتهي بمرارة إذا غاب الاعتراف أو قلّت المشاركة. هنا تكمن خطورة الوقوع في دور “المنقذ” الذي يريد أن يحمل همّ الجميع على كتفيه. الحقيقة أن العطاء الناضج ليس في حمل العالم، بل في أن نترك هامشًا للآخرين كي يقفوا على أقدامهم. المسافة الصحية ليست انسحابًا، بل احترامٌ لطاقتنا، واعترافٌ بأن الاستمرارية تحتاج إلى شراكة، لا بطولة فردية. فالقوة لا تُقاس بكمّ الأحمال التي نحملها، بل بقدرتنا على معرفة حدودنا… وحماية قلبنا من الاحتراق.
في وطنك، يراك الناس رمزًا، قائدًا أو شخصية عامة جاهزة لتلبية الكمّ الهائل من الدعوات، مما يجعل من السهل أن تنسى نفسك كإنسان ، أن تدفن تعبك خلف صلابةٍ متعمدة، أن تؤجّل الراحة، وأن تربط قيمتك بما تنجزه من مهام، لا بما تمنحه لنفسك من سكينة. لكن خلف كل هذا الإرهاق، هناك قلب يحتاج إلى لحظة هدوء بلا منصات ولا شعارات، إلى بيتٍ داخلي لا تدخله الضغوط ولا أدوار المجتمع. فالمراجعة الحقيقية تبدأ بسؤال شجاع: هل ما زالت قيمتي تنبع من ذاتي، أم من الصورة التي صنعتها لنفسي؟عندما نعيد تعريف أنفسنا بعيدًا عن ضجيج الإنجازات، نستعيد توازننا، ونسمح لذواتنا بالفرح، وبالضعف، وبالمسار الإنساني الطبيعي. عندها تتحوّل القوة من اندفاع يرهق صاحبه… إلى حكمة صافية، هادئة، تعرف كيف تقود، وكيف تستمر، وكيف تترك أثرًا لا يزول.
نقولا أبو فيصل ✍️



