
ارتبط اسم القطاع المصرفي بالإقراض، قبل أزمة عام 2019. فسهَّلَت المصارف عمليات الإقراض وشجّعتها بعناوين جاذبة وبالكثير من التسهيلات، حتى بات لكل إنفاق قرض يناسبه، من تعليم، زواج، سياحة، شراء مفروشات، سيارة، قرض شخصي… وغير ذلك. وبالتوازي، كان قطاع آخر يسير إلى جانب المصارف في مجال الإقراض، وهي مؤسسات التسليف الصغيرة التي تندرج تحت مظلة التمويل الأصغر Microfinance. ولهذه المؤسسات مرونة أكبر من المصارف لجهة إمكانية الحصول على القرض بشروط أقل تعقيداً، ما جعلها مقصداً للكثير من أصحاب المهن الصغيرة وذوي الدخل المحدود الذين يريدون البدء بمشروع خاص صغير.
وبعد الأزمة وفقدان الثقة بالمصارف، والتحوّل الذي أصاب قدرة المصارف على الإقراض، كبرت الحاجة الاقتصادية لمؤسسات التسليف، نظراً لحاجة السوق إلى دعم المؤسسات المهنية الصغيرة التي تساهم في تقليص حجم البطالة وخفض معدّلات الفقر، وتالياً، تنشيط التنمية المحلية.
عودة القروض الصغيرة
لعبت القروض صغيرة الحجم دوراً لا يستهان به في تعزيز الحركة الاقتصادية المحلية في المناطق اللبنانية، لا سيّما قرى الأطراف، ممّا خلقَ فرص عمل عبر المشاريع الصغيرة، فعزّز ذلك الدورة الاقتصادية المحلية، وحَمَت تلك المشاريع عائلات كثيرة. وأهمية تلك القروض تمثّلت بسهولة الحصول عليها بلا تعقيدات وشروط المصارف، لا سيّما وأنّ النسبة الأكبر من طالبي تلك القروض، هم خارج التصنيف الائتماني للمصارف، ممّا يجعلهم مرتفعي المخاطر بالنسبة للقطاع المصرفي. فضلاً عن أنّ تلك المؤسسات، حَمَت طالبي القروض من بطش المُرابين.
ولا شكّ بأنّ الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2019، انعكست على قدرة المؤسسات الصغيرة على الإقراض، أسوة بقدرة المصارف “لكن حتى عام 2023 استعادت مؤسسات التمويل قدرتها على الإقراض بتقديمها قروضاً لا تتخطّى الـ3000 دولار، واليوم بدأت بعض تلك المؤسسات بتقديم قروض بأكثر من 5000 دولار”، وفق ما يؤكّده لـ”المدن” الخبير في مجال الـMicrofinance والتنمية المحلية، علي حجازي، الذي يشير إلى أنّ “مؤسسات التمويل تتّجه نحو زيادة قدرتها على التمويل إلى ما يتخطّى الـ10 آلاف دولار للقرض الواحد، وهو ما يعزّز فرص العمل والتنمية المحلية في المناطق”. وبهذا السياق “تكون القروض الصغيرة قد عادت بنسبة 50 بالمئة ممّا كانت عليه قبل العام 2019”.
القدرة على التعافي
قبل أزمة 2019 لم تكن أدوار المصارف ومؤسسات التسليف تتعارض، لأنّ الشريحة المستهدفة مختلفة تماماً، كما أنّ دور المصارف في التنمية الاقتصادية العامة يختلف عن دور مؤسسات التسليف في التنمية المحلية. لكن انعكاسات الأزمة الاقتصادية واحتجاز أموال المودعين وتوسّع دائرة الفقر والتحوّل الاجتماعي الكبير الذي أصاب الطبقى الوسطى، عزّز الحاجة لمؤسسات التسليف التي كانت أكثر قدرة على التعافي من آثار الأزمة، على عكس المصارف.
وأتت القدرة على التعافي من أنّ تلك المؤسسات لم تكن محافظ ادّخار على غرار المصارف، وبالتالي لم تفقد ثقة المودعين، وهم شريحة هائلة من الناس. لم تقفل أبوابها في وجه الناس كما فعلت المصارف، بل حافظت مؤسسات التسليف على إعطاء قروض بالحدّ الأدنى الذي سمحت به قدراتها المالية في ذروة الأزمة، فيما امتنعت المصارف عن الإقراض. وهنا، يشير حجازي إلى أنّه “بعد العام 2019 فقدت مؤسسات التسليف أكثر من 80 بالمئة من رأسمالها الذي ذاب في المصارف عبر عدم قدرتها على سحب أموالها، لكنها استمرّت بإعطاء القروض”.
كما أنّ سرعة تعافي تلك المؤسسات أتت مدفوعة “بتأمين التمويل الخارجي من مؤسسات تسليف كبرى”، وفق ما يؤكّده لـ”المدن” الأكاديمي والخبير المصرفي سعد عنداري، الذي يقول إنّ “مؤسسات ألمانية وهولندية ونرويجية وغيرها، كانت تؤمّن التمويل لمؤسسات التسليف الصغيرة في لبنان، ويبدو أن هذه المؤسسات استعادت طرق تمويلها، وهذا يدل على استعادة مؤسسات التسليف الثقة، على عكس المصارف التي لا تزال مُحرَجة في قضية المودعين الذين يرفضون استئناف المصارف عملية الإقراض قبل حلّ مشكلة ودائعهم، إذ يرى المودعون أنّ قدرة المصارف على تأمين التمويل للإقراض تعني قدرتها على سداد الودائع المحتجزة، وهذا ما يؤخّر قدرة المصارف على التعافي لجهة استئنافها الإقراض”.
استعادة التمويل الخارجي يتمثّل راهناً ببعض برامج التمويل التي تقدّمها مؤسسات “مثل مؤسسة كوروس انترناشونال CORUS، والبنك الألماني للتنمية”، وفق ما يذكره حجازي الذي يدير مكتب بيروت التابع لمؤسسة CORUS. وهذا التمويل الذي يُعطى لمؤسسات التسليف الصغيرة “يتوزّع بين هبات وقروض”. كما أنّ مؤسسات التسليف “تؤمِّن جزءاً من تمويلها عبر التمويل الذاتي من خلال الرأس المال المدوَّر، أي من عائدات فوائد القروض التي تعطيها”.
تعزيز التنمية المحلية
الحاجة لتعزيز التنمية المحلية بعد أزمة العام 2019 وانعكاساتها، وصولاً إلى ما أفرزته الحرب الأخيرة من مصاعب اقتصادية واجتماعية، كان دافعاً أساسياً لمؤسسات التمويل الدولية لتأمين التمويل لمؤسسات التسليف، وفق ما يذكره حجازي. وبنظره فإنّ “نحو 85 بالمئة من عدد الشركات في السوق هي شركات مهن صغيرة تحتاج إلى تمويل لدعم التنمية المحلية، وهذا دفع المؤسسات الدولية لدعم مؤسسات التسليف، خصوصاً أنّها لم تقفل أبوابها خلال الأزمة، واستطاعت تلك المؤسسات تأمين سداد القروض بنسبة 98 بالمئة”.
ورغم ذلك، يتّفق عنداري وحجازي على أنّ تنشيط التنمية المحلية ومساعدة أصحاب المهن الصغيرة على مواجهة الأزمة الاقتصادية، لا ينفي الحاجة لاستعادة التعافي الاقتصادي على المستوى العام “الذي تساهم المصارف فيه عن طريق تمويل وتسليف كبار التجّار الذين هم عصب التجارة الاقتصاد”، وفق عنداري. أمّا حجازي، فيعتبر أنّه “لا يمكن استعادة الانتعاش الإقتصادي من دون ضخ المال في الاقتصاد الحقيقي والمنتِج وليس في اقتصاد الرعاية”.
وفي استعادة مسار تعافي قطاع التمويل الصغير، تبرز الحاجة إلى مواكبة التحوّل الرقمي، وهنا يبرز مفهوم الشمول المالي الذي يساهم في تنشيط عمليات الإقراض الصغيرة. فالشمول المالي هو امتلاك الشخص سجلاً مالياً يتضمّن قاعدة بيانات تتعلق بالحسابات المصرفية، طرق الدفع، معلومات الادّخار والاقتراض، فضلاً عن معلومات حول الخدمات المالية الرقمية. ويساعد الشمول المالي في تسهيل الإقتراض والحماية من المخاطر المالية ومخاطر الشبهات الدولية. وبحسب حجازي، فإنّ مواكبة المقترضين للتحوّل الرقمي، بدءاً من امتلاكهم محفظة الكترونية عبر بعض مؤسسات تحويل الأموال، يساعدهم في الحصول على القروض وسدادها وتوفير بعض الأكلاف مثل رسوم السداد التي تصبح ثقلاً إضافياً على المقترض إلى جانب فوائد القرض.
خضر حسان – المدن



