
محمود خضر الشبول
في بداية العام الدراسي، انتقلت عائلة صباح الرفاعي من جبل اللويبدة إلى الصويفية. لم يكن السبب ارتفاع الإيجارات أو تغيير مكان العمل، بل رغبة ابنتهم في أن تقترب من مدرسة مهنية في الجندويل تدرّس تكنولوجيا المعلومات ضمن المسار المهني الجديد. تقول صباح، طالبة الصف العاشر في مدرسة بمنطقة الجندويل “إحنا في عصر التكنولوجيا والعالم محتاج ناس متطورين بهذا الشي… أنا بحب الحوسبة، وأهلي دعموني، بس كانوا معارضين عشان المسافة… نقلنا من اللويبدة للصويفية عشان أصير أقرب شوي للمدرسة وصرت اروحلها بسيارة”.
بين توسّع رسمي متسارع… وواقع مدرسي لا يواكب الإقبال المتزايد
هناك تحوّل في خريطة التعليم المهني والتقني في الأردن؛ مسار جديد تُبنى عليه آمال رسمية، لكنّه ما يزال محصورًا في نسبة محدودة من الطلبة، ومقيَّدًا ببنية تحتية وقدرة استيعابية وثقافة مجتمعية لم تواكبه بالكامل.
تقول وزارة التربية والتعليم للغد على لسان أمينها العام للتعليم المهني والتقني محمد غيث إن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت «إعادة هيكلة شاملة» للتعليم المهني والتقني، وصلت معها أعداد الملتحقين إلى نحو 49 ألف طالب وطالبة، موزعين على 331 مدرسة تقدّم 12 برنامجًا مهنيًا وتقنيًا في مختلف المحافظات.
لكن الخبير التربوي د. محمد أبو عمارة يلفت إلى أن هذه الأعداد ما تزال تمثّل فقط ما بين 10 و15 % من طلبة المرحلة الثانوية، أي ما يقارب 30 ألف طالب من أصل نحو 200 ألف، رغم الحاجة المتزايدة للأيدي العاملة المهارية.
يُرجع أبو عمارة ثبات النسبة إلى سببين رئيسيين: الأول أن الوزارة حدّدت أعداد الملتحقين ببرنامج BTEC الجديد ولم تسمح بزيادتها رغم الإقبال، بسبب ضعف الإمكانات وقلة المدارس المتخصصة؛ والثاني اشتراط انتقال طلبة القطاع الخاص الراغبين بالتحويل إلى المسار المهني في المدارس الحكومية منذ الصف التاسع، ما يجعل قرار الانتقال أصعب على الأسر.
برنامج ” BTEC” بحسب غيث يمثل نقلة نوعية في التعليم المهني والتقني في الأردن في ردّه على اسئلة الغد ، بوصفه مسارًا قائمًا على المشاريع الفردية والجماعية والتعلّم من خلال العمل، تسعى الوزارة عبره إلى رفع جاذبية التعليم المهني واستحداث تخصصات في تكنولوجيا المعلومات، والضيافة، والزراعة، والشعر والتجميل، والفن والوسائط الإبداعية، مع خطط لإضافة برامج جديدة في السنوات المقبلة.
في قاعة دراسية بمدرسة البيادر المهنية، تجلس هبة الششتاوي، طالبة الصف الأول الثانوي في تخصص تكنولوجيا المعلومات، تقول:إنها امتلكت سابقًا خبرة في البرمجة، وإن علمها عن تحويل التخصص من أكاديمي إلى مهني دفعها إلى اختياره “كأولوية”، رغم نصائح محيطة تدعوها إلى المسار الأكاديمي “في فكرة منتشرة إنه التعليم المهني للطلاب اللي مش شاطرين”، تقول هبة، “بس النظام اللي بندرسه صعب وبدّه مهارات، والمهام العملية أكثر من النظري” .
إسماعيل الششتاوي والد هبة ، معلّم تدريب مهني متقاعد في صناعة الفخار والخزف، يؤكد أنه ترك لها حرية الاختيار، خلافًا لصورة الأب الذي “يحلم بابنه دكتور أو مهندس” يقول “مش أنا اللي بختار… بفضل إنه الطالب هو اللي يختار رغبته… إذا بحب تخصصه راح يبدع، وفرصة العمل في التخصصات التقنية ممكن تكون أفضل من المسار الأكاديمي العادي”.
على الورق، يبدو أن جزءًا من المجتمع بدأ يتخفّف من “ثقافة العيب” تجاه التعليم المهني لكن أبو عمارة يقول إن النظرة السلبية ما تزال حاضرة فالمجتمع ينظر لمن يعملون بهذه المهن نظرة دونية، رغم أن بعضهم يحقق دخلًا أعلى من أصحاب الشهادات العليا، فيما يخشى كثير من أولياء الأمور على أبنائهم من “المهن الصعبة” ويفضّلون لهم مسارات أكثر راحة.
هذه الصورة يكمّلها صوت من الميدان، المعلمة بتول العويدي، مدرّسة تكنولوجيا المعلومات في مدرسة البيادر بنظام BTEC، تلاحظ أن كثيرًا من الأهالي والطلبة ما يزالون يتعاملون مع المسار المهني باعتباره خيارًا للطلبة ذوي المعدلات المتدنية. تقول “ما عندهم وعي شو يعني BTEC… أغلب اللي بيجوا معدلاتهم بالخمسينات، نادرًا ما نلاقي طلاب بالتسعينات، رغم إنه التخصص يحتاج لمهارات عالية وتعب ” حيث لا يوجد توعية كافية سواء للطلبة او الاهالي بالبرنامج المهني وهو ما يحرم الكثير من الطلبة ممن لديهم الرغبة والشغف بالالتحاق بالبرنامج المهني.
قدرة استيعابية محدودة والمهني ما يزال يبحث عن مكانه في خريطة التعليم
ورغم هذه التحفّظات، يواجه الطلبة الراغبون بالالتحاق بالتخصصات المهنية عقبات من نوع آخر بتول تشير إلى أن لواءها لا يضم إلا مدرستين تطبّقان BTEC، في البيادر ومرج الحمام، بينما تبقى القرى المحيطة مثل بدر الجديدة وعراق الأمير بلا مدارس مماثلة، ما يجعل المواصلات وكلفة الانتقال سببًا للتراجع عن الفكرة لدى بعض الطلبة.
قصة صباح تكشف هذا البعد الجغرافي؛ فأسرتها اضطرت للانتقال من اللويبدة إلى الصويفية لتقترب من المدرسة في الجندويل، بعد أن كانت أقرب المدارس المهنية “بعيدة” عن مكان السكن الأول.
حتى داخل المدارس التي تطبّق البرنامج، تبدو القدرة الاستيعابية محدودة.
تقول بتول: إن الأنظمة التربوية توصي بألا يزيد عدد الطلبة في الشعبة عن 24 طالبًا في BTEC، لكن الواقع يشهد شعبًا تضم ثلاثين طالبة أو أكثر، فيما لا يُفتح مجال لقبول طلبة جدد رغم الإقبال.
في مواجهة هذه الملاحظات، تؤكد وزارة التربية أنها حسّنت جاهزية المشاغل والمختبرات، وجهّزت المدارس بأحدث المعدات والأدوات اللازمة لكل تخصص، ونفّذت أعمال صيانة شاملة، ورفعت مستوى السلامة المهنية، وزوّدت المدارس بمختبرات حديثة “تحاكي بيئة العمل الفعلية”، وتقول إن جاهزية المشاغل اليوم أفضل بكثير مما كانت عليه قبل خمس سنوات، مع استمرار التطوير بالتعاون مع القطاع الخاص.
الدكتور أبو عمارة يقرّ بهذا الجهد لكنه يصفه بأنه متواضع ولا يلبي الطموح و من وجهة نظره كانت المناهج الأردنية السابقة تمس الواقع بشكل أكبر من مناهج بيرسون العالمية حيث أن الاعتماد على شركة بيرسون لا يعتبر تطوير لهذا القطاع المهني وينبغي يلبي احتياجات سوق العمل التي تختلف من دولة لأخرى فهو يحاكي حاجات تلك الأسواق الاوروبية والامريكية ولا يحاكي السوق الأردني كما ان متطلبات منهاج BTEC يحتاج لمتطلبات كثيرة مثل معلمين مؤهلين مختبرات كبيرة جدًا وأدوات تدريب غير متوفرة بالشكل الذي يحقق الأهداف بنسبة مائة في المائة، برأيه، مشيرًا إلى أن المدارس الحكومية والخاصة ما تزال توفر مختبرات خجولة لا تلبي الأهداف التربوية كما يجب .
تضيف بتول، ان محتوى تكنولوجيا المعلومات في BTEC يمنح الطلبة قاعدة معرفية جيدة تساعدهم في الجامعة، لكنه لا يكفي وحده لتأهيلهم لسوق العمل ما لم يُستكمل بدورات متخصصة وجهد ذاتي. وتشير إلى أن بعض الطلبة يلجؤون لاستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي أو شراء مهام جاهزة لإنجاز المشاريع، ما يحرمهم من المهارة العملية التي يُفترض أن يبنيها البرنامج.
في مسار ما بعد المدرسة، يؤكد غيث أن خريجي التعليم المهني أمامهم ثلاثة خيارات دخول سوق العمل مباشرة، أو الالتحاق بالتدريب المهني المتقدم، أو استكمال الدراسة الجامعية, وتوضح أن علامة الطالب تحتسب بنسبة 70 % من مواد التعليم المهني في الصفين الحادي عشر والثاني عشر، و30 % من مواد الثقافة المشتركة ، بما يتيح له التقدّم إلى الجامعات في تخصصات مرتبطة بمساره.
لكن بالسؤال عن نسبة خريجي BTEC الذين التحقوا فعليًا بالجامعات أو حصلوا على وظائف، يجيب بأن النظام ما يزال جديدًا: لا توجد حتى لحظة إعداد الرد دفعات متخرجة من BTEC، لأن تطبيقه بدأ قبل ثلاث سنوات فقط، وبالتالي لا تتوفر بعد بيانات تراكمية كاملة عن الالتحاق أو التوظيف، وتشير الوزارة إلى أنها تعمل على بناء نظام تتبّع للخريجين (Tracer System) لرصد نسب من يلتحقون بالجامعات ومن يدخلون سوق العمل ونوعية وظائفهم.
هذا الغياب للبيانات يترك النقاش العام معلّقًا بين خطّة رسمية تقول إنها في طور التنفيذ، وشهادات ميدانية ترى أن الطريق إلى سوق العمل ما يزال ضبابيًا. أبو عمارة يطرح سؤالًا حول مدى جاهزية طالب في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمره لدخول سوق تنافسي بعد عامين من التدريب، ما لم تُقرَن البرامج بسياسات واضحة للتشغيل وربط فعلي مع المصانع والشركات.
بين رواية صباح التي غيّرت حيّها لتقترب من مدرسة مهنية، وهبة التي أصرت على دراسة تكنولوجيا المعلومات رغم التحذيرات، وأبوها الذي آثر أن يترك لها قرار الاختيار ، ومعلمة ترى ان التجربة بحاجة للتطوير وزيادة الوعي ، ووزارة تؤكد أن المشهد يتحسّن عامًا بعد عام؛ يتشكّل مشهد تعليم مهني يريد أن يكون بديلًا مقنعًا لا “خيارًا أدنى”.
لكن هذا المشهد لن يستقر قبل أن تتوسع الخريطة الجغرافية للمدارس، وتتقوّى المختبرات والمشاغل، وتتغير الصورة المجتمعية، وتتضح جسور العبور إلى الجامعة وسوق العمل بالأرقام لا بالشعارات، عندها فقط قد لا تضطر أسرة مثل أسرة صباح إلى تغيير سكنها من أجل مدرسة، وقد يتحول المسار المهني إلى خيار تنافسي حقيقي، لا مجرد تجربة جديدة تحت الاختبار.



