منذ بضعة أشهر، يعيش لبنان شبه استقرار في سعر الليرة مقابل الدولار. رُوّج بأن سياسات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من خلال ضخّ الدولارات على منصّة «صيرفة» هي السبب، وعندما اقتربت نهاية ولايته واتخاذ نوابه الأربعة قراراً بالتصعيد في مواجهة اعتكاف القوى السياسية وعجزها عن مقاربة الأزمة، قيل إن خروج سلامة يمهِّد لانهيار كبير في سعر الصرف، وإن رغبة نوابه في تعديل آليات عمل «صيرفة» ووجهتها يأخذنا أكثر نحو الانهيار. لكن الأسئلة المشروعة لم تُطرح بعد، إذ إن كل ما يهمّ الناس هو استقرار سعر الصرف لأنه الأداة الوحيدة التي عرفوها منذ 1997 لغاية اليوم، لقياس الازدهار أو الانحدار. فسياسات سلامة التي كانت تُنفّذ لمصلحة قوى الحكم بشكل متواصل، خلقت إدماناً على ثبات سعر الصرف، وربطت النموّ بمدى قوّة القدرة الشرائية وبالاستهلاك المموّل بالدولارات الآتية من الخارج. إدمان كهذا أخفى الخسائر طوال أكثر من عقدين ونصف عقد قبل أن تنكشف في 2019، لكنه تحفّز مجدداً بسياسات سلامة، وها هو يراكم المزيد من الخسائر على وقع دعم اصطناعي لليرة.
«سلامة شاطر» يقول أحد المرابين. شطارة سلامة ليس في أنه قادر على توزيع الأموال وإدارة هذه العملية نيابة عن قوى السلطة وباسمها، بل في أنه يدرك بدقّة طبيعة النظام القائم وحاجاته، وقادر على مقاربة هذه الحاجات بعقل مدرسة الاقتصاد السلوكي، أي إدارة الجماهير وترويضها من خلال عملية توزيع الأموال. الشطارة أن تسجّل خسائر وتخفيها «تحت السجادة». في تقريره الأخير، يقول صندوق النقد الدولي إن الخسائر بلغت 72 مليار دولار، وقد ورد في تقرير أعدّه مستشار رئيس الحكومة الاقتصادي سمير ضاهر، أن 53 مليار دولار هي الكلفة التي تكبّدها مصرف لبنان على سياسة دعم الليرة. هذه شطارة سلامة كونه يدرك أن 72 مليار دولار هو مبلغ مهول قد يكون مستحيلاً توزيعه في أي دولة قويّة وقادرة، فكيف إذا كانت هذه الدولة زبائنية – طائفية كما هي عليه في لبنان؟
إذاً، كيف يمكن توزيع خسائر تتجاوز أربعة أضعاف الناتج المحلي؟ ألا يعني ذلك، أنه لو جُمعت كل القيم المضافة المتاحة في كل القطاعات وبيد كل الأسر والعمال، سيتطلّب تسديد هذه الخسائر أكثر من أربع سنوات. وعلى افتراض أن لبنان، بقدراته السياسية «الخارقة» وبعلاقاته مع دول الخارج، قادر على تغطية الخسائر بالطريقة التقليدية أي بالتسوّل. فاللازم أننا سنحصل على 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي وسنقايض دول الخليج سياسياً في لبنان والخارج للحصول على 12 مليار دولار، ما يغطّي حاجاتنا التمويلية لنحو خمس سنوات، وبالتالي سنسخّر كل النموّ والأرباح التي يمكن تسجيلها في هذا الوقت من أجل تسديد كلفة هذه الأموال. عملياً، من أجل تسديد هذه الخسائر أو جزء منها سنكون مضطرين إلى أن نبيع كل ما نملك بسعر بخس. وسنبقى مديونين. حجم الخسارة هائل ولا يمكن تصوّره، وكلّه أتى «بشطارة» سلامة.
المشكلة أن «الشطارة» ذاتها تتكرّر اليوم. فالأكثر أهمية في يوميات اللبنانيين، هو استقرار سعر الصرف تجاه الدولار. وذلك يأتي رغم أن الدولرة النقدية باتت طاغية على كل نواحي الاقتصاد. فالقسم الأكبر من أجور القطاعين العام والخاص صار بالدولار النقدي، وبالتالي استهلاكهم صار كذلك، وكل أرباح التجّار والصناعيين ومقدّمي الخدمات واصحاب المهن الحرّة، صارت بالدولار النقدي لأن مبيعاتهم هي كذلك. نسبة كبيرة من الضرائب التي تفرضها الخزينة، تُسعّر بالدولار، إنما تُدفع بالليرة. لذا، يبدو مستغرباً كل هذا التعلّق بثبات سعر الصرف والإدمان على دعم الليرة. فالليرة صارت لزوم ما لا يلزم. لولا عمليات «صيرفة» لا ضرورة لها نهائياً. رغم كل ذلك، فإن سلامة يقرأ في سلوك الأفراد والشركات القلق من التقلبات والرغبة في الحصول على الحماية من خلال ثبات سعر الصرف. لذا، يحفّز إدمانهم على ثبات سعر الصرف مجدداً. يقدّم لهم وعداً زائفاً بالأمل. لكنه أمل. وهم لا يبدون أي اهتمام بالخسائر وبمراكمتها مجدداً رغم أن الخسائر القديمة لا تزال معلّقة ومكتشفة حديثاً. فمن أبرزها أن دعم الليرة كان يفوق الوصف إلى حدّ أن الفرد في لبنان اغتنى مرتين ونصف مرة أكثر من الفرد في أميركا، كما يردّد الوزير السابق شربل نحاس. اغتنى بشكل مصطنع ووهمي. وقد بات واضحاً للجميع أن الفاتورة، عند صدورها، ستكون هائلة كالتي صدرت حديثاً. لكن لا يمكن كبح هذا الإدمان، ولا يمكن أي خطوة أن تجعل مفاعيله مختلفة. ففي الأسابيع الأخيرة، جرى تضمين الميزانية نصف الشهرية لمصرف لبنان بنداً جديداً في جانب «الأصول» (أي ما يملكه مصرف لبنان) بعنوان «فروقات التقييم وفقاً للمادتين 75 و115 من قانون النقد والتسليف» وسجّل فيه لغاية 15 حزيران الماضي مبلغ 644043 مليار ليرة، أي ما يوازي 42.9 مليار دولار بسعر صرف 15000 ليرة مقابل الدولار، و7.07 مليارات دولار بسعر صرف 91000 ليرة مقابل الدولار.
الخسائر بدأت تظهر مجدداً في «اقتصاد الكازينو» حيث يشعر الناس بأنهم رابحون. في هذا النوع من الاقتصاد، يتم توزيع الأموال مجاناً، كما يحصل الآن عبر منصّة «صيرفة»، فيشعر اللاعبون بأنهم يربحون، بينما الإدارة تراكم الخسائر حتى نهاية اللعبة. قطعاً، الإدارة لن تدفع، والفاتورة تزداد بالفوائد. رغم ذلك، ثمّة من يجرؤ على انتقاد موقف نواب الحاكم الأربعة (سليم شاهين، بشير يقظان، ألكس موراديان، ووسيم منصوري) الذين اتخذوا قراراً بالتصعيد، لاعتقادهم بأن القوى السياسية في مجلسَي الوزراء والنواب وخارجهما، لم تقم بأيّ تحرّك جدّي لمقاربة الأزمة، بل تركت الأزمة تدار بيد الحاكم رياض سلامة، وترفض تعيين بديل قبل انتهاء ولايته لأنها عاجزة عن انتخاب رئيس للجمهورية… لكل هذه الأسباب، قالوا إنه لا يمكن أن تُدار سياسة نقدية من دون سياسة مالية. المعنى من ذلك واضح. فالسياسة المالية، أي التي تنفذها الحكومة، تكون مرتبطة باستراتيجية محدّدة، ولديها وظائف وأدوار واضحة ترسمها في الموازنة وفي القرارات الأخرى. الدعم، سواء دعم الرواتب، أو دعم سلعة معينة مثل المحروقات أو الدواء، أو دعم خدمة ما، أو دعم لتحفيز الاستثمار… كلّه يجب أن تقرّه الحكومة، وأن يكون عبرها بشكل مدروس وأن تتحمّل مسؤوليته، وألا يكون على عاتق المصرف المركزي. وقرار تسعير الليرة، أو دعمها لا يمكن أن يبقى بيد سلطة وحيدة هي السياسة النقدية، تتصرّف باستقلالية تامة عن الأخرى، أو تبلعها. هذه الخيارات ليست اعتباطية، وإنما هي أساس المشكلة. فلا يمكن المضيّ قدماً من دون توزيع الخسائر، ولا يمكن المضيّ قدماً في تأسيس خسائر جديدة قبل شطب القديم منها. دعم الليرة هو سياسة يجب أن تعلنها الحكومة وتحدّد أهدافها الاقتصادية منها. دعم الأجور أيضاً. دعم السلع. الإعفاءات الضريبية. أما توجيه انتقاد للنواب الأربعة القلقين من أن يصبحوا أكباش فداء لهذه السلطة، فهذه مجرّد مبرّرات لإعادة سلامة إلى الحكم.
واستجاب أمس، رئيس دائرة التنفيذ في بيروت، القاضي غابي شاهين، لطلب رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل القاضية هيلين إسكندر، وأصدر قراراً بالحجز الاحتياطي على ممتلكات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وشقيقه رجا، ومستشارته ماريان الحويك، في لبنان، لضمان حقّ الدولة اللبنانية في حال صدر حكم قضائي ضدّ الثلاثة، الذين يخضعون حالياً للتحقيق من قبل القاضي شربل أبو سمرا، غداة ادّعاء النائب العام الاستئنافي القاضي رجا حاموش عليهم، وانضمام هيئة القضايا إلى الدعوة ممثّلة الدولة اللبنانية. ويأتي الحجز الاحتياطي ضمانة في حال ثبوت التهم الموجهة ضدّهم وإدانتهم، إذ يمكّن الدولة اللبنانية من استملاك الممتلكات المحجوزة، أما في حال التبرئة، فتُرفع إشارات الحجز ويتاح لأصحابها التصرف فيها. ويمثل سلامة، اليوم، أمام أبو سمرا استكمالاً للجلسة الأولى. ورغم أنه من المقرّر الاستماع إلى رجا وماريان اليوم، إلا أن مصادر متابعة ترجّح تأجيل جلستهما مجدّداً، كما حصل الأسبوع الماضي، لضيق الوقت.