الخسائر تتفاقم والأمن الغذائي للبنانيين في خطر حقيقي

على وقع تصعيد العدوان الإسرائيلي على  لبنان، والذي تجاوزت الخسائر البشرية الناتجة عنه حتى الآن 3770 شهيدًا و15700 جريحًا (حتى إعداد هذا التقرير) تشهد المناطق الجنوبية والبقاعية أضرارًا جسيمة في البنية التحتية، خاصةً في قطاع الصناعات الغذائية والتموينية والزراعية والثروة الحيوانية الذي يشكّل الجزء الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي لتلك المناطق (80 في المئة منه وفق تقديرات البنك الدولي) التي تواجه بعثات التقييم صعوبة في الوصول إليها. في الوقت الذي تستمر فيه التحذيرات الدولية من تدهور الأمن الغذائي في لبنان، حيث صرّح المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك يوم الخميس في 21 تشرين الثاني 2024 أن ما يقرب من ربع سكان لبنان “يعانون بالفعل من عدم كفاية استهلاك الغذاء”.

خسائر القطاع الزراعي: تقديرات متضاربة
تتفاوت تقديرات الخسائر الاقتصادية التي لحقت بالقطاع الزراعي بشكل كبير، إذ يشير التقييم الأولي للأضرار والخسائر الصادر في 14 تشرين الثاني 2024 عن البنك الدولي إلى خسائر تقدّر بـ 1.2 مليار دولار أميركي، فيما كان وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام قد أعلن في أواسط نيسان 2024 أن التقديرات الأولية لخسائر القطاع الزراعي تتراوح ما بين 2.5 إلى 3 مليارات دولار، ثم عاد فأعلن في بداية تشرين الأول 2024 أن تلك الأرقام قد تضاعفت، أي أنها تتراوح اليوم ما بين 5 إلى 6 مليارات دولار.
أما وزير الزراعة عباس الحاج حسن فقال في حديثٍ إذاعي “لا يمكن تحديد أرقام الخسائر لأننا نتعاطى مع عامل متحرك، والقصف يطال مئات القرى من بعلبك الهرمل، وصولًا إلى الجنوب”. وأضاف أن عملية مسح الأراضي الزراعية المتضرّرة عن طريق الأقمار الصناعية ستبدأ بالتعاون مع منظمة الفاو لتحديد مساحات تلك الأراضي وطبيعة الاستهدافات التي لحقت بها. لكنه كان قد سبق وأعلن في مقابلة تلفزيونية أن “إسرائيل أحرقت 6 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية بقنابل الفوسفور الأبيض”، وأن لبنان يحتاج إلى 5 سنوات لاستعادة إنتاجه الزراعي. وفي حديثٍ خاص إلى “المدن”، أشار الصحافي الاقتصادي محمد زبيب إلى أنه لا يمكن تقدير مساحات الأراضي الزراعية المتضررة بشكل دقيق بعد، خاصة أن جزءًا كبيرًا من الأضرار “يقع على طول الحدود مع فلسطين المحتلة، نحو 120 كم من الناقورة إلى شبعا، وعلى عمق داخل الأراضي  اللبنانية يصل في بعض المناطق إلى 6 كم”، وهذه المنطقة هي “ساحة قتال حيث يصعب معاينة الأضرار ويوجد ما يشبه الحظر على إمكانية حصول الدولة اللبنانية على صور للأقمار الصناعية التي تمتلكها الشركات الأجنبية”. وأضاف: “لا شك أن الأضرار هائلة، إلا أن هناك مبالغات أو تقديرات ارتجالية، وأعتقد أن جانبًا من التضخيم هو للتهويل او لتسوّل المساعدات”.

 

ولا تقتصر الأضرار على إحراق الأراضي الزراعية وتدمير المحاصيل وفقدان الثروة الحيوانية، بل تطال جميع المستهلكين للمنتجات الغذائية بشكل مباشر. وفي هذا الخصوص قال زبيب: “إن الأضرار التي تصيب المحاصيل في هذا الموسم والموسم التالي مؤقتة ولها آثار فورية، لكن الأضرار الناتجة عن القنابل الفوسفورية بعيدة المدى. إن موسم قطف الزيتون هو الأكثر تضررًا. كما تضرر كثيرًا موسم الزراعات الشتوية، وهذا النوع من الأضرار يترك أثرًا مباشرًا على مداخيل المزارعين والعمال الزراعيين، وهم من الأكثر فقرًا، وعلى أسعار الاستهلاك”. أما الأضرار الناتجة عن النزوح فأكّد أنها لا تقل أهمية: “لعلّ موجات النزوح الكبيرة من المناطق المستهدفة بالقصف المستمر وأوامر الإخلاء لها تأثير على الزراعة بأهمية القصف، فهؤلاء النازحون ومنهم مزارعون وعمال زراعيون، اضطروا إلى ترك حقولهم وبساتينهم، وبالتالي تكبّدوا خسائر فادحة، خاصة لناحية زيادة حدّة الفقر، وسيكون لفقدانهم في العمل الزراعي أثر مباشر على العرض والأسعار”.

 

الأمن الغذائي في خطر حقيقي
يترافق هذا الفتك بالقطاع الزراعي مع حصارٍ متزايد منذ بدء توسّع العدوان في سبتمبر/أيلول 2024، تمهيدًا لمرحلة التجويع الممنهج للبنانيين على غرار ما يحصل في قطاع غزة، فيما لو فشلت مفاوضات وقف إطلاق النار وامتدت الحرب لفترة أطول.

وبحسب وزارة الزراعة عام 2020، فإن  لبنان يعتمد بشكل أساسي على الواردات الغذائية، والتي توفر حوالي 80 في المئة من متطلبات الاستهلاك الوطني، مع توفير الإنتاج المحلي حوالي 20 في المئة فقط. وقد استهدفت القوات الجوية الإسرائيلية عدداً من المعابر والممرات غير الرسمية بين لبنان وسوريا، ومن أهمها معابر جرماش (قلد السبع) وسرغايا (الزبداني) وإبش (القصير) وحوش السيد علي (حوش بنت اسماعيل)، إضافة إلى نصف المعابر الرسمية الحيوية، وهي معابر المصنع (جديدة يابوس) والقاع (جوسية) ومطربا (القصر) المنشأ حديثًا. معظم تلك المعابر استُهدِفت أكثر من مرة وأُخرِجت عن الخدمة بشكل شبه نهائي. ومن المرجح أن يستمر انخفاض حركة التبادل التجاري من خلال الشحن البري للبنان عبر الأراضي السورية مع تصاعد العدوان الإسرائيلي، إضافة إلى ارتفاع كلفة النقل والصيانة بعد تحوّل مسار عدد كبير من الشاحنات من المعابر الحدودية الشرقية باتجاه المعابر الشمالية، وما يترتب على ذلك من ارتفاعات إضافية في أسعار السلع الغذائية المستوردة.

وفق تقرير “بؤر الجوع الساخنة – الإنذارات المبكرة لمنظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي”، الذي يتضمن توقعات الفترة من تشرين الثاني 2024 إلى أيار 2025، فإن 23 في المئة من اللبنانيين البالغ عددهم مليون و300 ألف نسمة لم يعودوا قادرين على الوصول إلى الغذاء الكافي. هذا الرقم مرجّح للارتفاع مع استمرار العدوان مقابل انخفاض حجم التبادل وعدم كفاية المساعدات عبر الجسور الجوية المقامة.

وفي هذا المجال، أشار زبيب إلى أن “استمرار ارتفاع عدد النازحين داخليًا يعطّل سبل عيش السكان التي كانت قائمة في أماكن إقامتهم الأساسية، ونسبة مهمة منها ناجمة عن الأنشطة الزراعية والغذائية، ويزيد الضغوط على أسعار السلع الغذائية في المناطق المضيفة ويستنزف قدراتهم الشرائية، في ظل انخفاض حادّ في المداخيل والمساعدات الإنسانية، ونقص في فرص العمل المُتاحة، وإغلاق المعابر الأساسية مع سوريا وتقليص عرض السلع الزراعية والغذائية وتعطيل إمدادات السوق وسلاسل التوريد بسبب القصف وتدمير البنية التحتية وارتفاع مخاطر النقل وكلفة التأمين”.

لكن زبيب يرى أن الدولة، التي يصف دورها الحالي بدور “العاجز المتسوّل”، تتحمل المسؤولية الأكبر في ما يتعلق بالأمن الغذائي للبنانيين، فهناك فوائض مالية بقيمة 600 مليون دولار في الأشهر العشرة الماضية من هذا العام، أكثر من 20 في المئة منها بالدولار، أي نحو 120 مليون دولار. وبهذا الصدد قال: “إن ادعاء العجز، في ظل توافر المال والعدد الكبير للموظفين العموميين بما في ذلك عديد الجيش والانتشار الكثيف للمنظمات غير الحكومية، لا يترك مجالًا للشك أن تغييب أي تدخلات منسقة ومعممة لحماية الناس، أقلّه من الجوع إذا كانت الدولة غير قادرة على حمايتهم من العدوان، هو شكل هذه الدولة المراد إعادة انتاجها مع حزب الله أو من دونه”.

هاني عضاضة – المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى