
عبير بركات- جدة
يظلّ الحادي والثلاثون من ديسمبر محطةً رمزية تتقاطع فيها الذاكرة الوطنية مع قراءةٍ هادئةٍ لمسارٍ ممتد، وفي سيرة الملك سلمان بن عبدالعزيز تظهر هذه المحطة بوصفها أكثر من ختام عامٍ ميلادي، بل لحظةً يُعاد فيها تأمل جذور التحوّل، وأصداء القرارات التي غيّرت شكل الدولة، ونبرة حضورها العالمي، وبنية اقتصادها، وهوية إعلامها، ووهج ثقافتها.
عندما تولّى الملك سلمان زمام الحكم في الثالث من ربيع الآخر عام 1436هـ الموافق 23 يناير 2015م، كان يحمل إرثًا إداريًا عميقًا تشكّل عبر أكثر من خمسة عقود، بدأها أميرًا للرياض، المدينة التي قاد فيها مشاريع العمران، ونماذج الإدارة، وخرائط التحوّل الحضري، لتصبح الرياض في عهده المختبر الأول للمدن الذكية، والحاضنة الأكبر للاستثمارات، والعاصمة التي تستوعب التغيير دون أن تفقد ملامحها. تلك الخبرة لم تكن مجرد إدارة مدينة، بل صناعة مدرسةٍ كاملةٍ في الحوكمة، والانضباط، والتخطيط، وبناء المؤسسات، والعناية بالتفاصيل.
ومع أن يوم 31 ديسمبر لا يرتبط بولادة الملك أو تولّيه الحكم، فإنه يرتبط في الوجدان العام بسياقٍ زمنيٍ تُستعاد فيه محطاتُ الإنجاز، وفي عهده تبرز ذاكرة 31 ديسمبر 2015، اليوم الذي أُعلن فيه التمهيد الأول لرؤية المملكة 2030، برئاسة مجلس الوزراء، تلك الرؤية التي لم تكن بيانًا اقتصاديًا فحسب، بل مشروعًا معرفيًا وإعلاميًا وثقافيًا، أعاد تعريف علاقة الدولة بالمستقبل، وأخرج الاقتصاد من اتكائه شبه الكامل على النفط، إلى تنويعٍ مدروسٍ لمصادر الدخل، وإلى إعادة تشكيل القطاعات، وإشراك المجتمع في بنائها، مع استحضارٍ حاسمٍ لفكرة تمكين الإنسان بوصفه المورد الأكثر بقاءً وتأثيرًا.
رؤية 2030، التي تبلورت لاحقًا في 25 أبريل 2016م، قامت على ثلاث ركائز مركزية: مجتمع حيوي، اقتصاد مزدهر، وطن طموح، لكنها في تفاصيلها كانت تتجاوز الركائز إلى صناعة منظوماتٍ جديدةٍ في الإعلام، والتعليم، والثقافة، والصحة، والبيئة، والاستثمار، والصناعة، والسياحة، والطاقة المتجددة، والرياضة، وجودة الحياة. وقد ظهرت آثارها سريعًا في حزمةٍ من التحولات التي حملت توقيعًا إداريًا واضحًا للملك سلمان: سرعة في التنفيذ، حزم في القرار، انضباط في إدارة الموارد، وجرأة في فتح القطاعات أمام الخصخصة والاستثمار الأجنبي، مع حفاظٍ صارمٍ على السيادة الوطنية.
ومن أهم ما يُذكر في مسار التحوّل خلال عهده:
أولًا: التحوّل الإعلامي
الملك سلمان يؤمن أن الإعلام ليس ناقلًا للحدث فقط، بل صانعٌ للوعي، وبانٍ للصورة الدولية، ومُشكِّلٌ لهوية الأجيال، وفي عهده شهدت وزارة الإعلام تحولاتٍ جوهرية، كان أبرزها:
• إعادة هيكلة الإعلام الحكومي ليتوافق مع السرعة الرقمية
• تعزيز العلاقات الإعلامية الدولية عبر الشراكات مع وكالات الأنباء العالمية
• دعم الإعلام الرقمي المحلي ليكون صوتًا معاصرًا لا يُختصر في الخطاب التقليدي
• إطلاق برامج تمكّن الشباب في صناعة المحتوى الاحترافي الهادف
• تشجيع حضور المملكة في المنابر الإعلامية الدولية بلغةٍ واثقةٍ دون افتعال
ثانيًا: التحوّل الاقتصادي
• إطلاق صندوق الاستثمارات العامة بوصفه محركًا رئيسيًا للاقتصاد الجديد
• رفع مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي
• تطوير أنظمة الامتياز التجاري والاستثمار
• دعم رواد الأعمال عبر منصات التمويل والتشريعات المحفزة
• إطلاق مشاريع نوعية مثل: نيوم، البحر الأحمر، القدية، الدرعية
• تمكين المرأة اقتصاديًا وزيادة مشاركتها في سوق العمل
• تنظيم سوق العمل ورفع كفاءته وتحسين بيئته التشريعية
ثالثًا: التحوّل الثقافي
كان الملك سلمان يرى الثقافة امتدادًا للسيادة، ومرآةً لروح المجتمع، لا قشرةً للاستهلاك، وفي عهده شهد القطاع الثقافي:
• تأسيس وزارة الثقافة عام 2018م
• إطلاق مبادراتٍ لحفظ التراث وتوثيق الفنون الشعبية
• دعم الشعر والأدب والنقد الثقافي
• تعزيز التبادل الثقافي الدولي مثل العام الثقافي السعودي-الصيني 2025
• إطلاق الخط السعودي “الخط الأول” من وزارة الثقافة، وتأكيد الهوية البصرية للحرف السعودي
• دعم معارض الكتاب والفنون والمتاحف بوصفها جسورًا للحضور العالمي
رابعًا: التحوّل الاجتماعي وجودة الحياة
• إطلاق برامج جودة الحياة ضمن الرؤية
• دعم الرياضة، وتطوير الملاعب، واستضافة الأحداث العالمية
• دعم الفعاليات الاجتماعية والترفيهية المنضبطة
• تعزيز دور المجتمع المدني والعمل التطوعي
• تطوير التشريعات الأسرية والمجتمعية
• تحسين المشهد الحضري والبيئي في المدن الكبرى
خامسًا: الأمن والاستقرار
• دعم قطاعات الأمن كافة
• تطوير أمن الحرمين بوصفه أولوية وطنية وعقائدية
• التعامل الحازم مع أي تهديد للأمن الداخلي أو السيادة
• تطوير منظومات الأمن السيبراني
• تعزيز الصورة الدولية للمملكة بوصفها دولة استقرار لا دولة رد فقط
دلالات 31 ديسمبر في قراءة الإنجاز السلماني
يُعد 31 ديسمبر تاريخًا يُعاد فيه قراءة عامٍ يطوى وعامٍ يشرق، وهو السياق الذي يلتقي فيه حضور الملك سلمان مع مزاج التأمل الوطني، فهو:
• رمزٌ للختام لا الانتهاء
• لحظةٌ لتذكّر البدايات الكبرى للتحوّل
• استعادةٌ لهدوء القرار وقوة التنفيذ
• تأكيدٌ لامتداد القيادة في مشروعٍ لا يُبنى للعام، بل للعقود
• تذكيرٌ بأن الدولة لا تغيّر اتجاهها بتغيير التقويم، بل تغيّر التقويم بتغيير اتجاهها
ملامح قيادته في جملة واحدة
قائدٌ لا يرفع الصوت ليُسمع، بل يرفع الفكرة لتُرى، ولا يقطع المسافة ليصل، بل يختصر المسافة لتصل هي إليه، ولا يصنع الحدث ليُذكر، بل يصنع الوعي ليبقى، ولا يكتب التاريخ ليُقرأ، بل يكتب المستقبل ليُعاش.
ختام عام على اوتار الوطن
يا دهرُ قفْ عند المشيب المشرق
واكتبْ ملاحمَ من ضياء المفرق
عامٌ يطوى وفي الطيّ نونٌ شاهده
وعامٌ يجيء وفي السموّ مقاصده
يا موطنًا خطّ الزمانُ عهوده
ومضى الملوكُ وبقيتْ منجوده
سلمانُ يمشي في الوقارِ مهيبًا
لا يرفعُ الصخبَ بل يصنعُ الطيبا
على اوتارِ المجدِ نسجتَ الحكايا
بيتُ حكمٍ ثابتٌ رغم البلايا
لا ينحني إلا لربٍ واحدٍ في العلا
ولا يلينُ لعدوٍ مهما ادّعى الجلا
يا خادمَ الحرمينِ يا رمزَ الرشاد
يا حازمَ الرايِ يا صادقَ الوداد
تبقى القيادةُ حين تمضي المواسم
وتظلُ راياتُك في الذرى مواسم
نادى بك التاريخُ فاستجبتَ هاديًا
ورسمتَ دربَ التحوّلِ بانيًا
رؤيةٌ انطلقتْ وفيها الوطنُ مراده
لا تُختصرُ في عامٍ بل في الزمانِ عماده
يا جدةُ تشهدُ في السواحلِ عزمَه
وفي الرياضِ ازدهرَ القرارُ بحزمِه
قائدٌ يكتبُ في الختامِ فصولَه
لا بالفواصلِ بل باتّصالِ اصولَه
يا دهرُ لا تقلْ هُنا انقضى المسار
فالمجدُ لا يموتُ بتبدّلِ النهار
بل يولدُ كل يومٍ في عيون الرجال
ويثبتُ كل يومٍ في قلوب العيال
فاختمْ بنا القولَ الرزينَ بلا عجب
وبلا ضجيجٍ او زهوٍ او سبب
نحنُ ابناءُ الطموحِ لا نهابُ التبدّل
ولا نخجلُ من فصحى ولا من تجمّل
دام الوطنُ ودام فيه مليكه
ودام للعليا وقارُ طريقه
يا ربُ احفظْ قائدًا لا يهوى انطفاءً
واجعلْ عهده في الرضا والضياء بقاءً
شاعر اوتار القلم – احمد الثقفي




