عندما يفشل مجلس النواب في انتخاب رئيس للجمهورية يفتح الباب تلقائياً أمام المساعي من خارج المجلس من أجل الدفع لانتخاب الرئيس العتيد، وهذه المساعي تبدأ من دوائر التأثير الداخلية ولا تنتهي بعواصم القرار الخارجية.
تسقُط لبننة الاستحقاقات عندما تعجز القوى المُمسكة بمفاصل المؤسسات الدستورية عن القيام بدورها في إنتاج السلطة، ولا يجوز التعميم إطلاقاً، لأنّ هناك من يخضع لشروط الديموقراطية، وهناك من يعطِّل تحقيقاً لشروطه، ولو التزم مجلس النواب بالمهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية لكان حصلَ تسلُّم وتسليم، خصوصا انّ المُهَل لم توضَع لتُهمَل، إنما لتطبّق، وتطبيقها يشكل الحلّ الأساس لتجنُّب الشغور الرئاسي.
أما وانّ مجلس النواب المنتخب حديثاً لم يتمكّن من انتخاب رئيس الجمهورية بفعل تعطيل آلية الانتخاب من قبل الفريق المعطِّل نفسه الذي يضع اللبنانيين بين خيارَي استمرار الشغور او انتخاب المرشّح الذي يريده، فإنّ التدخُّل من خارج مجلس النواب لدفع الاستحقاق الرئاسي قدماً يصبح مشروعاً، أكان من بكركي او من عواصم القرار المهتمة بانتخاب رئيس، ولكن اهتمامها ما زال دون ممارسة الضغوط التي مورِست في الترسيم مثلاً الذي لم يكن ليحصل لولا الموافقة الإيرانية على الطلب الأميركي، والذي تُرجِم لبنانياً من قبل “حزب الله
فالفريق الأكثر تأثراً بالخارج هو الحزب بسبب ارتباطه العضوي بإيران، والحزب نفسه المسؤول الأساس عن الشغور الرئاسي بفِعل إصراره على مرشّح من صفوفه أولاً، وخلافاته داخل فريقه السياسي ثانياً، ولن يبدِّل في تموضعه الرئاسي سوى في إطار 4 حالات: طلب إيراني نتيجة تدخُّل فرنسي مع طهران؛ تَمايز الرئيس نبيه بري في الخيار الرئاسي وسَعيه إلى التوافق؛ قطع النائب جبران باسيل الخطوط الرئاسية مع الحزب وانفتاحه على خيارات جدية لا مناوراتية؛ دخول بكركي على خط الرئاسة في خطوات عملية لا الاكتفاء بالمواقف المبدئية.
ومع الانسداد في الأفق الرئاسي من باب مجلس النواب، ومع غياب التدخُّل الدولي الفاعِل من الباب الإيراني للتأثير على “حزب الله”، فإنّ دور البطريرك بشارة الراعي يصبح مطلباً لإخراج الاستحقاق الرئاسي من دوامة الشغور، ولكن نجاح هذا الدور يتطلّب العمل وفق 4 طبقات أساسية:
الطبقة الأولى مبدئية باعتبار انّ دخول بكركي على خط الانتخابات الرئاسية بعد فشل مجلس النواب بانتخاب الرئيس شرطه وضع ورقة مبادئ وطنية تستند إلى ثوابت الكنيسة المارونية، وأي مرشّح رئاسي أو لائحة مرشحين تخرج من بكركي مطالبة بالتعهُّد بأن تكون أمينة لهذه الثوابت، وعلى رغم انّ بكركي ليس لديها كتلة نيابية ولا قوة عسكرية وليست في وارد اللجوء إلى الحرم الكنسي، ولكنها مطالبة بموقف معنوي يدين الرئيس الذي يخرج عن الثوابت التي كان قد تعهّد الالتزام بها، وخطوة من هذا القبيل كافية بحد ذاتها.
وأهمية وثيقة المبادئ الوطنية التي على المرشّح الرئاسي الالتزام بها انها تذكِّر بدور رئيس الجمهورية الماروني المؤتمَن الحفاظ على دور لبنان التاريخي الذي ساهمت بكركي في صناعته وهندسته، فدور الرئيس ليس سلطوياً في وطنٍ ما زالت الصراعات داخِله من طبيعة وجودية وما زال الخلاف بين مكوناته مستمرا على مسائل يفترض ان تكون بديهية من قبيل الدولة والسيادة والشراكة والحياد والأولوية اللبنانية، إنما دور الرئيس السهر على صيانة الفكرة اللبنانية وتدعيمها وتحصينها وليس ان يكون مَن هو مؤتَمَن على هذه الفكرة في الموقع المناقِض لها والنّاسف للدور التاريخي والتجربة المميزة، اي ان رئيس الجمهورية مُطالَب بأن يلتزم بالمرجعيات المؤسسة والضامنة لهذا البلد بدءاً من الدستور وروحيته ونهائية لبنان وسيادته، مروراً بالمساواة والعدالة والحرية تحت سقف الدولة التي تحتكر وحدها السلاح، وصولاً إلى الشرعيتين العربية والدولية.
الطبقة الثانية مسيحية يتولّى فيها البطريرك الراعي حوارات ثنائية بعيدة عن الأضواء فلا يُعرف مَن دخل إلى بكركي ولا مَن خرج منها، لأن الوصول إلى النتيجة المتوخّاة يتطلب العمل في الكواليس بعيدا عن الصور والمشهديات التي ليس فقط لا يخرج منها أي شيء، إنما أصبحت مرفوضة من الرأي العام الذي لا يريد رؤية القوى المختلفة مجتمعة من دون نتيجة وأوضاعه تزداد سوءاً وتَرَدياً.
فباستطاعة البطريرك قيادة مفاوضات ثنائية يخرج بموجبها بلائحة تضم أكثر من ثلاثة مرشحين أو أقل والمشترك بينها الصدقية والاستقامة والشفافية والخبرة السياسية والالتزام الوطني، والاتفاق على هذه اللائحة بين الكتل النيابية المسيحية بواسطة البطريرك يعني ان أي مرشّح من بينها يحظى بما يُقارب الـ64 صوتاً، كما انّ هذه الكتل التي التزَمت ثنائياً مع البطريرك مدعوّة إلى ترجمة التزامها في مجلس النواب.
الطبقة الثالثة وطنية يتولى فيها البطريرك مباشرة او مداورة من خلال الكتل المسيحية التي التقاها ثنائياً وتشكّل جزءاً من تحالفات وطنية، وبالتالي يتولى إطلاق جولة مشاورات وطنية مع الكتل النيابية غير المسيحية لِوضعها في صورة المداولات المسيحية وما أفضَت إليه من ترشيحات بمواصفات وطنية ومعايير مؤسساتية ومتمنياً أن تسلك مسارها الانتخابي.
الطبقة الرابعة نيابية-مجلسية يتولى فيها مجلس النواب انتخاب المرشّح الذي يكون سلك طريق التوافق المسيحي-المسيحي والمسيحي-الوطني.
وقد يقول البعض انّ هذا السيناريو يؤدي إلى تغييب دور مجلس النواب بانتخاب رئيس الجمهورية، ولكن هذا المجلس فشلَ فشلاً ذريعاً بسبب وجود كتلة نيابية تعطيلية، ولا يحقّ له الانتقاد ولا الرفض، كما انّ عواصم القرار المهتمّة بلبنان لم تتمكّن من كسر حلقة الشغور. وبالتالي، حيال العجز البرلماني وغياب التأثير الخارجي والانسداد الوطني، لا بدّ من أن تُبادر بكركي من أجل إحراج الجميع وإنهاء حالة الشغور.
ويجب التأكيد انّ منهجية اللقاءات الثنائية والبعيدة عن الأضواء وحدها الكفيلة بالوصول إلى النتائج المرجوة، لأن المنهجية الأخرى التي تتوسّل طاولات الحوار أولويتها الاستعراض وهدفها شراء الوقت عن طريق الحوار الذي تستخدمه لرفع الضغوط عن نفسها جرّاء تحميلها مسؤولية التعطيل، فهي تسعى إلى حوارات فولكلورية لا جدية كونها لا تريد انتخابات رئاسية في هذا التوقيت الذي ما زالت فيه مُضعضعة الصفوف وعاجزة عن إيصال رئيس من صفوفها.
وهناك فئة أخرى تريد الحوار لكسر عزلتها وتوجيه الرسائل إلى حليفها الذي تخلّى عنها رئاسياً بأنّ لديها خيارات بديلة، وتسعى بدورها إلى شراء الوقت الذي تعتبر انه يمكن ان يَصبّ في مصلحتها في نهاية المطاف، فيما الدفع باتجاه انتخابات رئاسية الآن يقطع الطريق على أطماعها السلطوية، فيما أيّ طاولة حوار بالصيغة التقليدية المعروفة أكانت مسيحية أم وطنية أصبحت مرفوضة من قبل الرأي العام
ولا يبحث البطريرك طبعاً عن الصورة والمشهدية، بل همّه بالتأكيد إنهاء الشغور الرئاسي، ودخوله على خط المفاوضات الثنائية والكواليسية المسيحية والوطنية يشكّل الفرصة الوحيدة المُتاحة اليوم لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، لأنه لا يبدو انّ الرئيس نبيه بري في وارِد التمايز رئاسياً عن السيد حسن نصرالله، ما يعني انّ طاولات الحوار النيابية لن تؤدي إلى اي نتيجة، كما يعني انّ الستاتيكو الرئاسي السلبي سيبقى على حاله في ظل فقدان مجلس النواب القدرة على انتخاب الرئيس، والعنصر المتحوِّل الوحيد وغير المُكتمل بعد يَتمثّل في تَمايز موقف “التيار الوطني الحر” عن “حزب الله” بسبب حماس الثاني لخيار رئاسي يرفضه الأول، ولكن هناك انطباعاً عاماً انّ شغور العام 2014 يختلف عن شغور 2022 لاعتبارات مالية وسياسية وخارجية. وبالتالي، أمام كل هذا المشهد فإنّ انتقال البطريرك الراعي من الضغط بالموقف، إلى الضغط العملي عن طريق حوارات ثنائية مكثّفة، يمكن ان يكسر حال المراوحة القائمة، لأن حائط الشغور هذه المرة ليس سميكاً على غرار المرة الماضية، وجُلّ ما هو مطلوب حركة سياسية من مرجعية تقف على مسافة واحدة من الجميع وأولويتها إنهاء الفراغ وانتخاب رئيس للجمهورية بمواصفات لبنانية، وأيّ حركة من هذا القبيل تشكّل عاملاً ضاغطاً على جميع القوى السياسية وتُسرِّع في الانتخابات الرئاسية. فهل يُبادر البطريرك رئاسياً؟
شارل جبور – الجمهورية