إنه أمر غريب، لم أكن آتي إلى هنا أبداً رغم أن المكان قريب جداً من منزلي. لكنني قبل خمس سنوات فقط بدأت أذهب إلى الشاطئ من جديد”.
صاحبة العبارة السابقة هي رايان سوزا، الشابة البرازيلية المؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والناشطة في مجال مكافحة التمييز الذي يتعرض له الأشخاص البدناء.
وقد عانت رايان نفسها من هذا التمييز، الأمر الذي جعلها تتجنب السباحة لسنوات طويلة.
كانت رايان تجلس على مقعد بمواجهة البحر حين التقتها بي بي سي للحديث عن ما يسمى بـ”غوردو فوبيا”، وهو تعبير بالبرتغالية، يمكن ترجمته إلى “رهاب البدانة”.
نشأت رايان سوزا في جزيرة فيتوريا، عاصمة ولاية إسبيريتو سانتو البرازيلية، وعاشت في حي إلها دو بوي، الذي تسكنه الطبقة الغنية، ويتميز ببعض أجمل الإطلالات في المدينة.
التوعية بـ “رهاب البدانة”
شاركت رايان بتأسيس مجموعة “غودرا نا لي” التي تعني “السمنة في القانون”، وهي جمعية تعمل مع محامين على مساعدة ضحايا التمييز بسبب ضخامة أجسادهم على رفع قضايا أمام المحاكم والحصول على تعويضات.
قد تكون البرازيل معروفة بالصورة النمطية للأجسام “الجميلة التي لوحتها الشمس”، والجاهزة للذهاب إلى شواطئ البحر بملابس السباحة، لكنها أيضا البلد الذي يعمل فيه نشطاء على تمرير قوانين تجعل الحياة في المدن أسهل بالنسبة للأشخاص ذوي الأحجام الكبيرة.
ويقوم محامون برفع قضايا التمييز أمام المحاكم، لا سيما التمييز في مكان العمل، كما يحتفى في البرازيل أيضا بالجمال بغض النظر عن الوزن، وتقام فيها مسابقات جمال للنساء ذوات الوزن الزائد.
بينما كنا نتحدث مع رايان كان خطيبها يلتقط لها صورا، لتنشرها على حسابها على إنستغرام، والذي يحظى بأكثر من 18000 متابع، تشارك معهم تفاصيل من حياتها اليومية.
وتقول رايان “كنت خلال سنوات المراهقة أتحجج بأي عذر ممكن لكي أتجنب الذهاب إلى الشاطئ بصحبة أصدقائي. مرة أقول أنني في فترة الدورة الشهرية، وأخرى أقول إنني مريضة.. وحين تفشل كل أعذاري أكون الوحيدة في المجموعة التي تجلس على الرمال مرتدية سروالا أسود طويلا وقميصا قطنيا فضفاضا”.
وتضيف “لقد كنت سمينة طوال حياتي. كنت طفلة سمينة، ومراهقة سمينة. كنت معتادة على سماع تعليقات حول وزني”.
لكنها تقول إن حادثة معينة تعرضت لها خلال دراستها الجامعية غيرت طريقة تفكيرها.
تجربة صادمة
في عام 2012 ، أنشأ عدد من زملاء رايان في الجامعة مجموعة على تطبيق واتس آب للسخرية من مظهر ها ووزنها الزائد.
كانوا يأخذون صورا من حسابات زميلتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ويتداولونها ضمن المجموعة مع تعليقات مهينة. وذات مرة شعرت إحدى الطالبات بالذنب، وأخبرت رايان بالأمر.
لكن تلك التجربة الصادمة المؤلمة، كانت السبب الذي جعل رايان تغير طريقة تفكيرها، ونظرتها إلى نفسها رأسا على عقب.
واكتشفت الفتاة أثناء محاولتها التعامل مع حزنها، فكرة التعامل بإيجابية مع الجسم بكل أشكاله، وهو مفهوم ولد في الولايات المتحدة في السبعينيات، ويركز على “الرعاية الذاتية، وحب الذات وتقبلها”.
وتقول رايان “عندما فهمت ما هو رهاب البدانة، بدأت أدرك الكثير مما حدث لي طوال حياتي. لم يكن الأمر خطأي أبدا، لقد كان ذلك خطأ المجتمع”.
قررت رايان التعامل بإيجابية مع الأمر، وفي عام 2019 طلبت من صديقتها ماريانا أوليفيرا، المحامية المختصة بحقوق الإنسان، مساعدتها في إطلاق مجموعة حملات للدفاع عن حقوق الأشخاص أصحاب الأوزان الكبيرة.
وبدأت رايان وماريانا بتلقي رسائل من أشخاص يسعون إلى الحصول على تعويضات جراء تعرضهم للتمييز، أو يرغبون بمشاركة تجاربهم، وبمعدل نحو 70 رسالة شهريا.
ووفقا للإحصاءات الرسمية، هناك أكثر من 1400 قضية الآن متعلقة برهاب البدانة، تنظر فيها المحاكم المختصة بقضايا العمل في البرازيل.
توضح ماريانا أن “رهاب البدانة” لا يعتبر جريمة حسب القانون في البرازيل، لكن هناك طرق قانونية لمواجهته، مثل تقديم شخص إلى المحكمة بتهمة التشهير أو القذف، أو ارتكاب مضايقة نفسية منافية للأخلاق.
وتشير ماريانا إلى قضية اشترط فيها صاحب عمل على إحدى موظفاته أن تخسر قدرا من وزنها لكي يدفع لها مكافأتها.
وتقول “لقد جعلها حتى تقف على الميزان”.
وصدر القرار لصالح الموظفة مع الحكم لها بتعويض قيمته نحو 1800 دولار، وهو أحد أعلى التعويضات التي تقضي بها محاكم برازيلية في القضايا المتعلقة برهاب البدانة، وإن كان يعتبر مبلغا صغيرا مقارنة بتعويضات في قضايا من نوع آخر في البلاد.
وتضيف ماريان أن صاحب العمل قال في دفاعه عن نفسه، إنه طلب منها أن تفقد وزنها لأنه “يعتبرها بمثابة ابنته، وأراد لها الأفضل”.
ورأى القضاة أن تعامل صاحب العمل مع الموظفة، لا يمت بصلة إلى علاقة أب بابنته، وجاء في القرار “تبدو الوقائع المتعلقة بهذه القضية سريالية، رغم أنها لا تقبل الجدل”.
وتقول رايان وماريانا إنه رغم تزايد عدد القضايا المرفوعة أمام المحاكم بهذا الخصوص، ما زال كثير من الأشخاص لا يطالبون بتعويضات، لأنهم يريدون تجنب تكرار الحديث عن الصدمة، وعيش التجربة من جديد.
مشكلة الأبواب الدوارة
من إحدى التجارب الصعبة، حالة امرأة من إسبريتو سانتو، حشرت في الباب الدوار لإحدى الحافلات بسبب كبر حجم جسدها، وظلت عالقة لأربع ساعات، قبل أن يتدخل رجال الإطفاء لإخراجها.
وتقول رايان “كان الناس يسخرون من المرأة ويلتقطون لها الصور ومقاطع الفيديو، وينشرونها على وسائل التواصل الاجتماعي”.
وتمثل الأبواب الدوارة مشكلة كبيرة للأشخاص الأكبر حجما في البرازيل. وقد توقفت رايان عن ركوب الحافلة عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، بعد أن علقت ذات مرة في باب الحافلة التي كانت تستقلها إلى وسط مدينة فيتوريا.
وتقول “أنا محظوظة بما يكفي لأتمكن من ركوب سيارة أجرة أو القيادة بنفسي إلى أي مكان أريد الذهاب إليه. لكن هذا ليس هو حال معظم البرازيليين”.
إحداث التغيير
ترى رايان أن هناك بعض القوانين التي يجب تغييرها، لكي تصبح المدن مريحة ومناسبة للأشخاص من جميع الأحجام.
وتعتقد بما يتعلق بالحافلات على وجه التحديد، أن أحد الحلول السهلة هو السماح للركاب بالصعود من الباب الخلفي، إذ يتعين اليوم أن يطلب الشخص من السائق السماح له بذلك، كفضل أو خدمة خاصة، وأحيانا يرفض السائق الطلب.
وقد تبنت بعض المدن البرازيلية هذه السياسة مثل مدينة ريسيفي الساحلية، التي تقع على بعد 1500 كيلومتر إلى الشمال من فيتوريا.
قرارات لمكافحة رهاب البدانة
صدر العام الماضي قراران متعلقان بمكافحة رهاب البدانة: الأول تسمية يوم خاص للتوعية بهذا الأمر، والثاني يلزم المدارس بتوفير مقاعد أكبر للتلاميذ، مقعد واحد أكبر على الأقل في كل فصل دراسي.
وتقول سيدا بيدروسا، العضوة في مجلس مدينة ريسيفي، والتي اقترحت مشروع القانون “سمعت قصصا كثيرة عن أشخاص عانوا الكثير من الإهانة في سنوات دراستهم. وكانوا يضطرون للذهاب إلى مكتب المدير كل يوم لكي يأخذوا أحد الكراسي الخاصة بالكبار”.
وهي ترى أن المبادرات الرامية إلى جعل المدينة مناسبة للناس من جميع الأحجام، لا تقل أهمية عن مبادرات مكافحة السمنة والترويج للغذاء الصحي أو ممارسة الرياضة.
وتضيف “الأمران ليسا متناقضين بالضرورة. علينا الالتزام بتوفير طعام صحي للطلاب في المدارس العامة، وتشجيع الناس على اتباع أسلوب حياة صحي. ولكن في نفس الوقت لا يمكننا الاستمرار في إعادة إنتاج فكرة أن الأشخاص البدينين مرضى”.
وتتبنى كارول ستادتلر المبدأ نفسه في دفاعها عن حقوق أصحاب الأوزان الزائدة، وهي عضوة في مجموعة باسم “بونيتا دو كاربو” أي “جمال الجسد”، وقد انضمت إلى سيدا في جهود تمرير التشريع الجديد
وتقول كارول إن الأشخاص الأكبر حجما يصورون غالبا على أنهم كسالى، ما يشكل عائقا أمام مسيرتهم في بيئة العمل، كما يُنظر إليهم على أنهم مسؤولون شخصياً عن وضعهم.
وتضيف أن واقع الحياة في عالم اليوم، مع وجود كثير من الناس الذين يعملون في وظائف منخفضة الأجر واضطرارهم للتنقل لساعات في المدن الكبرى من وإلى مكان العمل، يجعل من امتلاك المال لتناول الفاكهة والخضروات وإيجاد الوقت لممارسة الرياضة، رفاهية قد تكون صعبة المنال.
وتؤكد على أن “الناس يزدادون بدانة، وعلينا التعامل مع الأمر”.
وتظهر الأرقام الرسمية أن نصف البرازيليين يعانون من زيادة الوزن، وأن واحدا من بين كل أربعة أشخاص يعاني من السمنة المفرطة.
تحديات إنقاص الوزن
تقول الدكتورة لوسيا كورديرو إن إنقاص الوزن ليس بالأمر السهل، وهي ترى أن التطور الطبيعي مسؤول جزئيا عن هذا، فقد عانت البشرية على مر التاريخ من الجوع أكثر بكثير مما عاشت في وفرة غذائية، ما ساعد على برمجة أجسامنا على زيادة الشهية ما أن نبدأ بخسارة الوزن.
وتضيف الطبيبة المختصة بالغدد الصماء وهي من مدينة ريسيفي، أن العامل النفسي يمكن أن يلعب دورا مهما في زيادة الوزن، وتشير إلى أن نحو 30 بالمئة من الأشخاص الذين يعانون من السمنة المفرطة في البرازيل، يعانون من اضطرابات الأكل، وهذا ما يجعل العلاج في أحيان كثيرة يتطلب تدخل أخصائيين في الصحة العقلية.
كما تشكل العوامل الوراثية سببا لزيادة الوزن في نحو 30 في المئة من الحالات، كما تقول الدكتورة لوسيا.
وتوضح الدكتورة لوسيا أن السمنة مرض التهابي مرتبط بمجموعة واسعة من الأمراض، من السرطان إلى قصور القلب، وضيق التنفس أثناء النوم.
لكنها تشير في الوقت نفسه إلى أن الشخص يمكن أن يكون وزنه زائداً أو بدينا، لكن صحته جيدة.
وتقول الدكتورة لوسيا لبي بي سي “والعكس أيضا صحيح: يمكن للشخص أن يكون نحيلا، وصحته غير جيدة”.
وتضيف “نحن نقيّم الصحة العامة للشخص. فإذا كان وزنه زائدا لكنه لا يعاني من ارتفاع ضغط الدم أو مرض السكري أو من اضطرابات الدهون، فيصنف على أنه شخص سليم”.
وهي ترى أن ارتفاع معدلات السمنة هو مشكلة صحية عامة تحتاج إلى معالجة. لكن هذا لا يعني أن المجتمع لا يحتاج إلى تغيير لجعل الحياة أفضل بالنسبة للأشخاص أصحاب الأحجام الكبيرة أو محاربة التمييز.
وتؤكد على وجوب العمل في الاتجاهين معا، قائلة “علينا أن نحث المجتمع على محاولة اتباع حياة صحية، لكن علينا أن نكون حذرين في كيفية توجيه الرسالة، لكي لا تتحول إلى تحيز، إلى رهاب البدانة”.
وبالعودة إلى مدينة فيتوريا، تقول رايان إن الكثير من الناس “يخشون الذهاب إلى الطبيب”.
وقد استمعت بي بي سي إلى العديد من القصص عن أشخاص قيل لهم إن عليهم إنقاص أوزانهم بغض النظر عن الأعراض التي يشعرون بها، أو الأسباب التي دفعتهم إلى طلب المشورة الطبية.
ويقول الكثيرون إن التعرض لوصمة العار من قبل أخصائي الصحة ليس بالأمر غير المألوف بالنسبة لأصحاب الوزن الزائد.
وتبحث رايان حاليا عن طبيب “متعاطف”، لكي يساعدها على اتباع نظام غذائي صحي، فهي تخطط مع خطيبها تياغو لإنجاب طفل في المستقبل، وتريد أن يكون حملها سلسا قدر الإمكان.
“نحن لا نروج للسمنة”
تقول رايان “أريد أن أحسن أسلوب حياتي، وأن أتناول طعاما صحيا. وإذا فقدت قدرا من وزني فليكن، لكن هذا ليس هدفي الرئيسي. أعتقد أنه من الممكن أن يكون الحمل صحيا، وإن كان الوزن زائدا”.
وبرأيها، فإن أحد أكبر المفاهيم الخاطئة لدى الناس عن مجموعات مكافحة رهاب البدانة، هو أن النشطاء يدافعون عن أسلوب حياة غير صحي.
وتقول إن الغاية هي أن تصبح الحياة في المدن أسهل بالنسبة لأصحاب الأوزان الكبيرة، وأن يعامل الأطباء مرضاهم باحترام، وأن يحصل الجميع على فرص عادلة في سوق العمل.
وتؤكد رايان على أن “لا علاقة (للحملات) بمحاولة إضفاء طابع رومانسي على أسلوب حياة غير صحي. في الواقع، لا نشجع الناس على المحافظة على جسد يجعلهم دائما مهمشين”.
وتضيف “نحن نشجع الناس على تمكين أنفسهم، والسعي للحصول على حقوقهم. إن القرارات الخاصة بأسلوب حياة أي شخص شأن خاص به”.