لا يزال صوتك يعيش في كياني، في كل ذرّة فيه، وعندما أقرأ كلماتٍ لكَ، أتخيّلك كأنك تقولها لي.
كنتُ أستمتعُ بحديثك الهاتفي في الصباح الباكر، عندما تتصل بي من روما، وتتابع معي بعض المسائل، فتنتابُني الخيلاء كلّ ساعات اليوم لأنّ الكبير “سيدنا المطران كبوجي” يُكلّمني.
كنتُ أتذكرُ بعض ما رَويت لي – عن القدس، تلك الجوهرة التي يحاول الكثير من الناس كي ننساها.
كيف أن الإسرائيليين حاولوا منذ العام 1970 الضغط على البطريرك مكسيموس الخامس حكيم “بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك” لكي يُرسلك إلى أي مكان خارج فلسطين ولكنه رفض.
كيف اعتقلوك مرتين، الأولى في 8 آب 1974 واستمرت 17 ساعة، والثانية في 18 آب 1974 واستمرت حتى 6 تشرين الثاني 1977، أي مدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً.
وكيف أنك كنت تتوقع اعتقالك مرة ثانية، فأتلفتَ كلّ الأوراق والمستندات، واقتادوك “مكبّل اليدين بالأصفاد” إلى سجنك الأول “بيت شميش” حيث قمتَ بالنوم بثيابك الكهنوتية على الأرض الرطبة، وكيف كان التحقيق معك بوحشية خلال أوقات مختلفة وحتى بعد منتصف الليل.
وكيف أنك خلال محاكمتك كنت تستخدم خطة إثارة أكبر قدر من الضجيج لأن أخبار ذلك ستنتقل الى العالم وسيكون لها وقع إيجابي.
كم ضحكتُ عندما حدّثتني كيف كنتَ تستخدم في المحكمة عبارة “إني أعزل محامي الدفاع” فتتوقف جلسة المحاكمة لأنه لا يجوز أن تستمر من دون محامي دفاع، وكيف كنتَ تفتعل القصص لكي يتوقف مسار جلسة المحاكمة بهدف تسخيف المحكمة والضحك من سلطات الإحتلال.
ألم تبلغ مجموع الأحكام عليك سيدنا المطران 59 سنة؟ ثم حُكم عليك بالعقوبة 12 سنة.
كم كنتَ تذكر لي كيف نقلوك إلى سجنٍ للمجرمين فأهانوك بذلك، وكنتَ ترفض خلع ثوبك الكهنوتي، ثم بعد ضغوطات دوليةٍ كثيرة نقلوكَ إلى سجن الرملة حيث كان السجناء الفلسطينيين يشكّلون معك عائلة واحدة.
كيف لا .. وسجائر الدخان من نوع LM كان يطلبها السجناء من أهاليهم ليعطوك إياها.
كيف لا .. وعندما سَرَقَ السجانون لباسك الكهنوتي وألبسوك لباس السجناء، قام السجناء الفلسطينيون بخياطة ثوبٍ جديدٍ لك وبسرّية كاملة، وكيف أن آمر السجن عندما رأى اللباس الكهنوتي عليك، حاول خلع الثوب فتمزق من طرف الكتف .. ومع ذلك فهو هذا الثوب الذي غادرتَ به إلى روما عند إطلاق سراحك لتتذكر أبنائك الفلسطينيين.
كيف لا .. وهم الذين كانوا يّهرّبون رسائلك التي كنتَ تكتبها على أي نوع من الورق، إلى خارج السجن فتنشرها الصحف وعندما سألك آمر السجن بعصبيةٍ عن كيفية نقلها، أجبتهُ أنك كمسيحي مؤمن، يأتيك الروح القدس فيأخذها إلى خارج السجن. وكم ضحكنا طويلا عندما كنتَ تتذكر كيف جنَّ جنون آمر السجن.
ما أكتبه هو القليل مما سمعته منك …
كم عانيتَ من مهاجمة بعض رجال الدين المسيحي الذين خافوا منك لأنك كبير.
هل تذكر – سيدنا – عندما كنّا سنذهب عند سماحة الشيخ الدكتور أحمد حسون، وكان حينها مفتياً لحلب، والذي ما انفكّ يقول أنك بمثابة عمٍّ له، فَطلبت من أحد المطارنة في حلب أن يُعيرك الثوب الأسقفي لأن ثوبك لم ينتهِ من التنظيف .. فَرَفض.
وكيف كان لكَ لقاء مع أحد المطارنة فتركنا لوحدنا وغاب ربع ساعة بحجّة أنه يجري لقاءاً صحفياً على الهاتف، فما كان مِنكَ إلّا أن رفعت صوتك وقلتَ لي: “باسل … خلّينا نمشي، هاد ما بيحترم حدا”.
وبالمقابل أخبرتني عن رسالة الرئيس السوري حافظ الأسد لك، يدعوك فيها “إلى بيتك طالما أن سوريا هي وطنك” والدعوة هذه كانت مفتوحة ولا يحدّها زمن.
سيدنا الحبيب الغالي …
أنت عظيم وسيرة حياتك ومواقفك وأبناء فلسطين وسورية والقدس وحلب تفتخر بك.
كم انتابتني الخيلاء وأنا أقرأ رسالتك الأبوية لي والتي وقّعتَ عليها بصفتك “مطران القدس في المنفى” وكم كنت أفتخر بأنني عرفتك.
سيدنا أنا أشعر بكَ معي وأكلِّمك وتوجّهني.
سيدنا المطران إيلاريون كبوجي … إن العظماء لا يموتون
اللهم اشهد اني بلغت