في 12 حزيران 2023، اختُتِمَت في لندن مسيرة طويلة، بدأها مكتب الإدعاء في نقابة المحامين في بيروت قبل ثلاثين شهراً، في كانون الثاني 2021، وضع خلالها المحامون العاملون بشكل تطوعي (Pro bono) طاقاتهم بخدمة ضحايا أكبر انفجار غير نووي في التاريخ، في إطار دعوى مدنية أقاموها أمام محكمة العدل العليا البريطانية (High Court of Justice – London) ضدّ الشركة البريطانية SAVARO Ltd.
شركة SAVARO هي شركة بريطانية «فعلّية» (وليست شركة «وهمية»)، تأسست في 2006؛ وبعد انفجار مرفأ بيروت، تمّت محاولة تصفيتها (في 2021). وكانت الشركة قد أوكلت محامياً في لبنان بعد تفريغ حمولة نيترات الأمونيوم في المرفأ في 2013، وتقدّمت بطلبات قضائية وبمراجعات إدارية في بيروت. وبعدما تمّ تقديم الدعوى ضدّها في لندن، أوكلت الشركة مكتب محاماة بريطانياً للدفاع عنها، وشاركت بفعاليّة بالمحاكمة الوجاهيّة، وتبادلت اللوائح، وحضرت الجلسات. كما قام مساهموها، خلال المحاكمة، بنقل ملكية أسهمهم إلى مواطن أوكراني مقيم في أوكرانيا. كل ذلك لا يتوافق مع شركة «وهمية»، ولا مع شركة لا علاقة لها بانفجار مرفأ بيروت، ولا مع شركة لم تمارس حقها بالدفاع أمام القضاء.
الحكم النهائي الصادر في حزيران 2023 ضدّ شركة SAVARO
إذاً، في حزيران 2023، أصدرت محكمة العدل العليا حكماً نهائياً، ألزمت بموجبه الشركة بالتعويض للضحايا وذويهم المدّعين، وحددّت مبالغ التعويضات المستحقة لهم، بعدما كانت المحكمة أقرّت، في شباط 2023، مسؤولية الشركة المدنية.
كما قلناه للقاضي Master Eastman، في نهاية الجلسة التي حضرناها في 12 حزيران 2023، في المبنى العريق الذي يضّم عدّة محاكم (The Royal Courts of Justice)، ما يهمّ ليس التعويض المالي عن أضرار معنويّة غير قابلة للتعويض بقدر ما هو معرفة الحقيقة ولو جزئياً، وإحقاق الحق ولو بشكل غير كامل، وإعادة الأمل للضحايا بأنّ الحق يسمو دائماً. وأكدّنا للقاضي أنّ حكمه الأول، الصادر في شباط 2023، الذي كان قد قضى بالمسؤولية المدنية لشركة SAVARO، كان كافياً بحدّ ذاته لطمأنة الضحايا بأنّ ملف إنفجار المرفأ لن «يُدفن».
البحث عن محاكم أجنبية مختصّة لملاحقة كافة المعنيين
فور وقوع الإنفجار في 4 آب 2020، استنفر نقيب المحامين في بيروت في حينه الدكتور ملحم خلف كل طاقات النقابة خدمةً للضحايا. وبعد عمل دؤوب، تمكنّ المحامون المتطوعون من جمع حوالى 1200 ملف، بمساعدة أطباء وخبراء عقاريين متطوعين وضعوا تقارير طبّية وتقارير بالأضرار المادية؛ وفي تشرين الأول 2020، تقدّموا بشكوى أمام المدّعي العام لدى محكمة التمييز. وبعد ثبات عدد المحامين المتطوعين للعمل على ملف إنفجار المرفأ وإصرارهم على متابعته حتى النهاية، أنشأت نقابة المحامين في بيروت «مكتب الادعاء» برئاسة النقيب (النقيب ملحم خلف في حينها، تلاه النقيب ناضر كسبار الذي منح المكتب كامل ثقته ودعمه) وعضوية عدد ثابت من المحامين. وكانت فلسفة مكتب الادّعاء، ولا تزال، أنّ الثقة بالقضاء اللبناني هي الأولوية وأنّ بناء الدولة يمرّ بإحقاق الحق على يدّ القضاء الوطني. إلاّ أنّه تمّ أيضاً التوافق على محاولة ملاحقة كل المعنيين بالانفجار أمام المحاكم الأجنبية صاحبة الإختصاص القضائي على أساس جنسيّة الضحايا، أو مكان وجود مقرّ الشركات المعنيّة، أو غيرها من عناصر الإرتباط (Eléments de rattachement). فتواصلنا مع محامين فرنسيين وبلجيكيين وأميركيين وغيرهم، واستحصلنا منهم على دراسات قانونية سمحت لنا بتحديد الخيارات.
في كانون الثاني 2021، نشر الإعلامي فراس حاطوم على شاشة تلفزيون «الجديد» تقريراً كشف فيه عن معطيات تناولت عدّة مواضيع، منها دور الشركة البريطانية SAVARO Ltd التي ظهر اسمها في ملف حمولة نيترات الأمونيوم التي وصلت إلى مرفأ بيروت في 2013 على متن الباخرة M/V Rhosus وانفجرت بعد 7 سنوات، في 2020. خلال السنوات اللاحقة لتفريغها في مرفأ بيروت، تصرّفت الشركة بالحمولة تصرّف المالك بملكه: أوكلت محامياً لبنانياً؛ وتقدّمت بطلبات قضائية؛ وتراسلت مع جهات رسميّة لبنانية؛ ما أثبت صفتها في الملف.
التصدّي لتصفية شركة SAVARO
بدأنا التدقيق في هذه الشركة، وعلمنا، من خلال الإطلاع على ملفها في السجل التجاري البريطاني (Companies House)، أنّ مساهميها تقدّموا بعد الانفجار، في كانون الثاني 2021، بطلب تصفيتها، وكأنّ الهدف هو محو كامل الخيوط المؤدية إلى معرفة هوية المسؤولين عن انفجار المرفأ: لماذا محاولة تصفية شركة بعد مرور 15 عاماً على تأسيسها (في 2006)، بعد الإنفجار فوراً ؟ وبالتزامن، علمنا أنّ نائبين بريطانيين في الـ House of Commons وفي الـ House of Lords، وهما Dame Margaret Hodge و Lord John Mann، طالبا السلطات البريطانية بتحقيق حول شركة SAVARO بسبب عدم تصريحها عن أصحاب الحقوق الاقتصادية (Ultimate Beneficial Owners – UBO). وهذه المخالفة خطيرة، إذ أنّها تحجب هوية أصحاب الشركة الحقيقيين، لأنّ مساهميها ومدراءها الظاهرين أشخاص طبيعيون ومعنويون يمتهنون حمل الأسهم وإدارة الشركات لصالح الغير، وهم بالتالي مختلفون عن أصحاب الشركة الحقيقيين. وللتذكير، فإنّ هناك عدداً من الشركات غير الشركة البريطانية المدّعى عليها تحمل أيضاً إسم SAVARO كانت مسجّلة في بلدان مختلفة: إسكوتلندا، أوكرانيا، والجزر العذراء البريطانية (BVI)، وغيرها، ما يُظهر أنّ الشركة المدّعى عليها جزء من مجموعة شركات (Groupe de sociétés)، وأنّه من السذاجة بمكان الظّن أن لا قيمة لظهورها في ملف انفجار المرفأ.
وجّه نقيب المحامين في بيروت، في كانون الثاني 2021، كتباً إلى النائبين البريطانيين وإلى السجل التجاري البريطاني، وطلب من السجل التجاري تعليق عمليّة التصفية. إستجاب السجل التجاري، وعلّق العملّية لمدة 6 أشهر؛ وقد تمّ لاحقاً تمديد هذه المدة عدّة مرّات بناءً على طلبات مقدّمة من مكتب الادعاء (من خلال المكتب البريطاني) ومحامين آخرين.