تدهور قيمة الليرة يجبر العائلات السورية على العزلة

أدى التدهور القياسي التاريخي الجديد في قيمة الليرة السورية إلى مزيد من تآكل قيمة المداخيل الشهرية للغالبية العظمى من المواطنين المعدمين أصلاً، وعمق أكثر أزمتهم المعيشية بشكل يفوق قدرتهم على التحمل. وقد وصل الأمر ببعض العائلات إلى عدم استقبال حتى المقربين بسبب عدم قدرتها على تكاليف الضيافة.

خلال تبادله الحديث مع عدد من جيرانه في أحد أحياء دمشق الجنوبية، تحدث رجل تجاوز 70 عاماً، قائلاً إنه قبض أمس راتبه التقاعدي البالغ «90 ألف ليرة سورية»، وأضاف بحزن: «يعني راتبي صار أقل من 9 دولارات».

وأوضح العجوز بسخرية، أنه محتار في كيفية التصرف بمرتبه، فقيمته أقل من ثمن كيلوغرام واحد من الشاي البالغ 120 ألفاً، وأيضاً أقل من ثمن كيلوغرام من القهوة الذي وصل إلى أكثر من 100 ألف.

ويلفت إلى أن سعر علبة مشروب «المتة» حلق إلى أكثر من 20 ألف ليرة والكيلوغرام من السكر إلى نحو 10 آلاف، ويقول: «الناس لم تحرم فقط من الطبخ بل حتى من كأس الشاي والمتة وفنجان القهوة».

وانعكس ازدياد صعوبة الوضع المعيشي بشكل سلبي على العلاقات الاجتماعية بين الأسر، إذ يوضح عجوز آخر خلال عملية تبادل الحديث مع الجيران، أنه يعيش بمفرده في المنزل منذ وفاة زوجته، إلا أنه يتردد بشكل شبه يومي إلى منزل ابنه القريب من منزله ويقضي معظم اليوم عندهم.

ويلفت الرجل بحسرة إلى أنه لاحظ منذ أسابيع عدة أن معظم أفراد عائلة ابنه تبدو عليهم الرغبة في «عدم قدومي كل يومين أو ثلاثة»، ويوضح أنه «لا يلومهم، لأن الوضع المادي لا يحتمل (استقبال) ضيوف وتقديم طعام وقهوة وشاي».

وتدهور سعر صرف الليرة السورية، الأربعاء، إلى أدنى مستوى له في التاريخ، مسجلاً في دمشق 10100 ليرة للشراء و10200 ليرة للمبيع مقابل الدولار الأمريكي الواحد، بحسب ما أظهرت تطبيقات إلكترونية غير رسمية تراقب السوق الموازية ويتابعها سوريون. في حين حدد مصرف سوريا المركزي التابع للحكومة سعر الدولار بـ9200 ليرة سورية في نشرة الحوالات والصرافة.

جمود الرواتب وارتفاع الأسعار

وفي كل مرة يتدهور فيه سعر صرف الليرة، ترافقها موجة ارتفاع في أسعار كل المواد خاصة الغذائية، وسط مراوحة المرتبات الشهرية للموظفين في المؤسسات الحكومية مكانها؛ حيث لا يتجاوز مرتب موظف الدرجة الأولى 150 ألف ليرة والثانية نحو 100 ألف، في حين كان مرتب الموظف في عام 2010 يعادل 600 دولار أميركي.

وتؤكد دراسات اقتصادية وخبراء أن العائلة المؤلفة من 5 أفراد باتت تحتاج إلى أكثر من 4 ملايين ليرة سورية في الشهر لتعيش في مستوى أقل من الوسط.

كما أكدت الأمم المتحدة مرات عدة، مؤخراً، أن 90 في المائة من الشعب السوري يعيشون تحت خط الفقر، و60 في المائة منهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأكثر من 15 مليون سوري بحاجة للمساعدات الإنسانية.

وخلال جولة قامت بها «الشرق الأوسط» على سوق للخضار جنوب دمشق، بدا واضحاً التراجع في الإقبال على الشراء، بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار، إذ يبلغ سعر الكيلوغرام الواحد من «الملوخية البلدية» 15 ألف ليرة بعدما كان في الموسم الماضي لا يتعدى 6 آلاف.

وذكر صاحب بسطة لبيع الملوخية، أن مبيعاته اليومية خلال هذا الموسم تراجعت بأكثر من 70 في المائة عن العام الماضي «فمعظم الزبائن وبعد مجادلة في السعر تشتري نصف كيلوغرام وبعضهم ربع كيلو»، ويضيف: «كانت الزبائن في العام الماضي تأخذ كميات كبيرة للمؤونة، وحالياً يشتري زبون واحد أو اثنان في اليوم للمؤونة».

ويلفت الانتباه إلى أن صالة المؤسسة السورية للتجارة الحكومية المخصصة لبيع اللحوم والقريبة من سوق الخضار، بدت قبل ساعات الظهر خالية من الزبائن، بعدما كانت قبل أشهر قليلة تشهد ازدحاماً بزبائن معظمهم من الأثرياء وبعضهم من ميسوري الحال.

ويؤكد أحد العاملين فيها لـ«الشرق الأوسط»، أن تراجعاً تدريجياً في الإقبال على الشراء يحدث منذ أشهر عدة، إلى أن وصل الأمر إلى هذه الحال. ويقول: «قبل أشهر قليلة كنا نبيع كيلو لحم الغنم الهبرة بـ35 ألفاً ومن ثم ارتفع إلى 50 ألفاً ومن ثم إلى 65، ومع كل ارتفاع يتناقص عدد الزبائن، على الرغم من أن أسعارنا أرخص بكثير من الجزارين في الأسواق العامة، حيث يصل سعر الكيلو لديهم إلى 100 ألف».

سياسة نقدية فاشلة

خبير اقتصادي سوري تحدث لـ«الشرق الأوسط» متحفظاً عن الإفصاح عن نشر اسمه، قال إن من أبرز أسباب استمرار تدهور قيمة الليرة ووصول الوضع المعيشي إلى هذا العمق من التردي، السياسة النقدية الفاشلة التي يتبعها «مصرف سوريا المركزي»، وعدم قدرته على السيطرة على سعر صرف العملة الوطنية، الذي تتحكم به السوق الموازية.

في الأثناء، أكد عضو مجلس الشعب السوري، محمد زهير تيناوي، في حديث أخير نشرته صحيفة «الوطن» المقربة من الحكومة، أنه ليست هناك مبررات أو أسباب واضحة لارتفاع سعر صرف الدولار في السوق المحلية، خصوصاً وقد وصلت للبلد كتلة جيدة من الحوالات بالقطع الأجنبي خلال فترة عيد الأضحى الماضي، مرجحاً احتمال ارتفاع الطلب على الدولار في الفترة الأخيرة، تبعاً لارتفاع معدل المستوردات أو التهريب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى